رمضان كريم .. يلتقي كل السالكين على أن الغاية من مكابدة الحياة هي هضم النفس، والترقي بالمعرفة، تلك المعرفة التي تتراكم بالعمل، كما جاء في الحديث النبوي)من عمل بما علم ورَّثه الله علم ما لم يعلم ..(وترتبط الغاية بالظرف التاريخي، وبين السالكين من يقف عند حدود القيم التربوية مهتماً بالسلوك، والتهذيب، وهناك من يتجاوز عالياً الظرف التاريخي فيتحدث عن الغيب، وكنه الكون، والمعرفة بالله.
ويترقى السالك بالمعرفة حتى يعرف نفسه، فيعرف الله ، قال أحد العارفين عن تجربته في الترقي: (أما أنا فقد بدأت بالجانب التطبيقي في العبادة بإحياء السنة قولاً وعملاً وسلوكاً، منتظراً موعود الله حيث قال :(واتقوا الله ويعلمكم الله).. فلما جرى على لساني، وقلمي، ومسيرتي وأعلمني الله من حقائق دينه، ظنه الناس ليس من الإسلام وما علموا أن ما أقوله وأسلكه هو الإسلام عائد من جديد، وأن الغرابة في هذا القول، وهذا السلوك إنما هي لازمة من لوازم البعث الإسلامي).. وهكذا المشوار ، مشوار الترقي، الذي يبدأ من الداخل، بتجلية النفس من المذمومات.. ولذا سُمِيّ مسلك الفقرا بـ)علم الباطن) لتعلقه بالجارحة الباطنة، وهي القلب في مقابل(علم الظاهر)..أهل هذا الطريق يأخذون الفقه وجهاً معرفياً، ولكنهم يعولون على ماوراءه، حيث أن، كل من اشتغل بالعلة الظاهرة، ولم يعتقد أن وراء ماهو ساعٍ في تعلمه من الفقه والحديث والتفسير حقائق وعلوم باطنة، فهو غافل عن الله تعالى، جاهل بدين محمد، وداخل تحت قوله تعالي: (يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون).. من يمضي في هذا الطريق، لابد له أن (يجمع بين الأختين)، أي يصلح الظاهر والباطن معاً، فيعامل الناس بشريعتهم انطلاقاً من حقيقته.. والسلوك بهذا المعنى، هو روح الدين وجوهره، لأن قواعد الدِّين كلها مردودة إلى الأساس الأخلاقي، فمن زاد خُلقه زاد صفاؤه .
الأخلاق ثمرة الممارسة الشاقة في ترفيع النفس من سافلها الحيواني إلى سموها الروحي.. والطريقة، كما عرّفها أبو حامد الغزالي في إحياء علوم الدين (أول شروطها تطهير القلب.. مفتاحها استغراق القلب بذكر الله ..وآخرها الفناء بكلية في الله).. فعلم الباطن إذن، فوق أنه شريعة وزيادة، هو ثمرة عمل بها، هو معركة مع النفس لا انكفاء عليها.. وقد سمى الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك بـ (الجهاد الأكبر)، في مقابلة (الجهاد الأصغر) -جهاد السيف-حيث أن أعدى أعداءك، هي نفسك، التي بين جنبيك.. في هذا المعنى قال الشريف البيتي:ــ (شُقَّ ثوب الوهمِ عنْ ذَاتِكَ ينشّقُ غِطَاهَا- وادْخُلِ الجنّةَ في دُنْياكَ وانعمْ بشذاها).
قواعد السلوك مبنية على قواعد الأخلاق، فقد شُرِّع الحج والصوم لأهداف أخلاقية، والصلاة والطهارة لترقيق القلب، وتحليةً للإنسان بفضائل الخشوع والمناجاة والأنس بالله، وبغير هذه المعاني تصبح الصلاة هيكلاً فارغاً .. وعلى ذلك، كل العبادات والمعاملات، لا تكون ذات قيمة أو فائدة، ما لم تقم على البُعد الأخلاقي، والسالكين لهم قول في ما يلي الالتزام بالشريعة، فهُمْ يحاربون في ذواتهم الغفلة والأغيار، ويعبدون الله من مداخل الحب والثقة فيه، طمعاً في جنته لاخوفاً من ناره ..السالك في هذا الدرب، يُدان بالأغيار حتى في سياحات روحه في المنام أو الحضرة.
هذا المعنى، أي محاربة النفس والسمو بها، هو فخر عظيم تجده في الحكم والأمثال السودانية، وفي مربعات الدوبيت، وكذلك الشعر الثوري.. من هذا المناخ استلف محمد وردي لحنه الشهير : (أحارب من أجلك ذاتي)..
ومن هنا كان لقاء العابد والثائر، قدراً مقدوراً، على الطريق: طريق القوم .. ولا إله إلا الله..