أذكر أنه وقبل سنوات طويلة، العدد في الليمون، استضاف برنامج تليفزيوني مجموعة من قدامى الأطباء، وعندما قدموا أنفسهم تنافسوا في تعظيم مناطقهم بأنها منطقة حضارة أو أصل الحضارة..وغيرها. فجاءهم الدكتور محمد الحسن الطيب – رحمه الله – وأتمنى أن تكون ذاكرتي حديدا، ليقول لهم ضاحكاً إنه نشأ في أمدرمان، وكانت تجاورهم دار الرياضة، ويسير الترام أمامهم وتؤجر الإذاعة نصف بيتهم.” تاني الحضارة شنو في السودان”؟!
نعم كانت إذاعة هنا أمدرمان واحدة من أكبر مظاهر الحضارة الحديثة في السودان، خاصة عندما بدأت بثها في بداية الأربعينات، حين كان الناس يتجمعون في نقاط محددة ليستمعوا لها، ثم انتشرت أجهزة الراديو الكبيرة، حتى جاءت ثورة الترانزستور بالراديوهات الصغيرة الخفيفة. صمدت الإذاعة كأكبر وأهم جهاز إعلامي في السودان لأكثر من أربعين عاما، حتى ظهور التليفزيون في الستينات لم يهدد عرش الإذاعة لمحدودية انتشاره، ولم يظهر التهديد الحقيقي إلا في التسعينات بعد انتشار الفضائيات. ربما تراجع الاستماع للإذاعة في المدن لانتشار أجهزة التليفزيون، لكنها لا تزال مكان الاهتمام والمتابعة في الريف، وعند العتيقين من أمثالي الذين لا تزال الإذاعة تربطهم إليها برباط سحري.
لا أظن أن هناك من ينكر دور الإذاعة في تكوين الوجدان الوطني السوداني، ربما لا يقارب دورها إلا السكة الحديد. كان الناس يعيشون في جزر منعزلة عن بعضهم البعض، يحمل كل ناس منطقة قصصاً أسطورية عن حياة الناس في المناطق الأخرى. لكن عن طريق السكة الحديد والإذاعة السودانية تساكَن السودانيون مع بعضهم البعض، التقوا وتعايشوا وتحدثوا وتبادلوا الهموم والمشاكل، تعارفوا وتصاهروا وغنوا ورقصوا. كان برنامج ما يطلبه المستمعون تصله الرسائل من كل بقاع السودان، يطلبون فيه الأغاني الجديدة وذات الشعبية الواسعة، وكانت نشرة الثامنة مساءً تذيع أخبار الوفيات من كل بقاع السودان. من خلال هذين البرنامجين سمعنا بأسماء قرى ومدن وبقاع سودانية لم تمر علينا لا في كتب الجغرافيا والتاريخ ولا في مسامرات الناس في الحياة العامة.
حفظت الإذاعة السودانية تراث وثقافة أهل السودان، ونقلته للأجيال الجديدة، كل التراث الغنائي السوداني من عند كرومة وسرور وحتى ناشئة الفنانين، في ذلك الوقت كانت الإذاعة هي مدخله لقلوب وآذان الناس. وحتى أغاني المناطق المختلفة باللغات واللهجات الأخرى كانت تطل عبر برنامج “ربوع السودان”، ومنه عرفنا أحمد عمر الرباطابي وإدريس إبراهيم وبلاص وآدم شاش ويوسف فتاكي “إيي بلدنا وكلنا سودان”. وكانت الإذاعة السودانية هي حوش الدراما الكبير قبل ظهور المسرح القومي، وعبر الإذاعة تم تسجيل القرآن الكريم لكبار المقرئين وتفسير عبد الله الطيب، وعرفنا المداح والمنشدين أولاد حاج الماحي والشيخ الحضري والسماني أحمد عالم.
إذاعة أمدرمان هي حاضنة تاريخ السودان وجغرافيته وتراثه وقيمه وتقاليده، هي المتحف الصوتي لكل إنتاجنا المادي والمعنوي، وهي بيتنا الكبير. تحية لكل أجيال الإذاعة السودانية والمغفرة والرحمة لمن رحلوا وآخرهم الإذاعية المجيدة نجاة كبيدة، رحمها الله وأحسن إليها.