وبعيدًا عن ما لم يقله المتعافي عندما كان أحد أبرز الفاعلين في التخت الحكومي، وقاله الآن، بعد أن نُزع دبوسِهِ من التخت، في حواره مع (دلاي) على ثالثة السوداني لعددين متتالين وربما لثالث وأكثر، وكيف أجاب عن سؤال “كيف تهزم فكرة تخفيض الدولار؟”، وما كان ليفعل لولا أنه (برّه)، ورغم (برانيته) التي أضفت إلى أقواله شفافية نسبية، فإنه أغفل في إجابته أمرًا مهمًا، وهو ذات الأمر الذي أغفله (البراني) الآخر عبد الرحيم حمدي.
يجيب المتعافي عن سؤال (دلاي) المُعلق بعاليه: “لا تنفع الكبسولات العلاجية إلا من خلال زيادة الصادرات وزيادة الإنتاجية”. وهذا كلام صحيح لولا أنه لم يكمل الجملة، بعبارات مثل (وتنظيف الخدمة المدنية ومحاربة الفساد)، لأنه حتى إذا ما ارتفعت الإنتاجية وزِيدت الصادرت، وظلت الخدمة المدنية قائمة كما هي الآن، فإن كل شيء سيذهب سدى، وكأنك يا (أبا زيد ما غزيت).
الغريب أن الأمر ذاته، يظل يتكرر مع كل من تأتي به الصحف من الاقتصادية ورجال المال والأعمال من الإسلامويين ليتحدثوا عن الأوضاع الاقتصادية في البلاد، وعن ما ترتب عليها من ارتفاع لسعر صرف الدولار، كلهم يتحدثون عن خلل كبير ويوصون بزيادة الانتاجية والصادرات، لكنهم لا يتحدثون عن، ما الذي يعطل ويطيح ويؤجل حدوث تلك الزيادات؟ لذلك فإن أقوالهم سرعان ما تأخذها الريح أدراجها.
والحال، إنه لا (ينفع) أن تُبتدر أي إصلاحات في الاقتصاد ما لم تسبقها نظافة شاملة وجذرية للخدمة المدنية متزامنة مع (جز) نباتات الفساد التي تنمو كل يوم لأعلى، من جذورها، وهذا فعل يحتاج إرادة سياسية.. ويسكت المتعافي عنه، ويدير له حمدي ظهره، وبالتالي لا حل ولا أفق، فالأمور ذاهبة إلى ما هو أسوأ.
وقريبًا من ما قاله المتعافي، نعود هنيهة لنختم، قال: “نحن شعب قليل الادخار عكس الشعوب الآسيوية، فالفرد منهم يجني دولارين ويدخر دولاراً ونصف، أما السوداني فإذا حصل على دولارين ينفقهما بسرعة، ولا ينتبه إلاّ حينما تفرغ يديه”.
والله حكاية يا متعافي، حكاية صادقة، لكنها تفتقر إلى التحليل لأنها تفتقر إلى المعلومات، لذا دعنا نحكي لك، كيف يكتسب الفرد وبالتالي المجتمع ما تسميه أنت بالسلوك الادخار، فـ (الموضوع مافطري) يا والي الخرطوم ووزير الزراعة السابق، ورجل الأعمال الحالي و(المستثمر)، فالآسيوي الذي تحكي عنه يدخر لأن يستطيع أن يلبي حاجاته بنصف دولار، ولو كان لا يستطيع الإيفاء بمتطلبات معيشته اليومية بهذا النصف لصرف عليها الدولارين ولربما استدان أيضًا.
وهنا أيها الرجل الهمام، لا يستطيع الادخار إلى الأثرياء، (يا لها من مفارقة مذهلة)، لكن خذها رصيدًا لتستخدمه في حواراتك التالية، ليس لأن الأثرياء متحضرون أكثر من غيرهم، بل لأن لديهم فائض، أما السواد الأعظم من السودانيين فإنهم لا ينفقون ما في الجيب ليأتيهم ما في الغيب كما يشاع ويُردد، لا وكلا، بل لأنهم ليس لديهم ما يدخرون منه، لم يحققوا الاكتفاء الذاتي بعد، بسبب سياسات الحكومة، فالسوداني يدفع في التعليم والعلاج والماء والكهرباء والأغراض الحياتية اليومية، ويدفع ويدفع، ويدفع ضريبة وزكاة ورسوم مغادرة وقيمة مضافة، و…..، وكل هذه المدفوعات كان يمكنه أن يدخر جزءاً منها، لكن حكومته لا تأخذ منه ضريبة 2% فقط، كما يفعلون في آسيا أو في دول الجوار مثل إثيوبيا، إذن فالمقارنة غير صحيحة، ويؤسف أن تصدر من رجل مال وأعمال بقامتك المديدة والفارعة يا متعافي.