البرنامج الرمضاني الذي أطلقه الاتحاد الوطني للشباب السوداني باسم (تواصل) أثار في العشرة الأوائل من الشهر الكريم غباراً وأتربة وعواصف سياسية حرّكت الساحة بدءاً من شنطة الحاوي وانتهاءً بهمس الفريق “بكري” وابن عمه “مبارك الفاضل” جهراً في صالة (أسبارت سيتي) بضاحية بري الثلاثاء الماضي.. ولا يزال في جراب اتحاد شباب الدكتور “بشار شوقار” رعود وبروق لا يُعرف كيف تمطر ولا أين ومتى.. ولكن (برنامج تواصل) بات أقرب للاتصالات السياسية بين جهات تقطعت بها السبل وتباعدت بينها المواقف.. وتسربت قنوات التواصل من خلال الإفطارات الرمضانية التي أقامها الاتحاد الوطني للشباب السوداني الذي يقول قادته إنه يمثل كل ألوان الطيف السياسي والفكري في الساحة السياسية، وذلك ادعاء لا يقره الواقع حيث ينضوي تحت الاتحاد الوطني للشباب السوداني الإسلاميون في المعسكرين (الوطني) و(الشعبي) وشباب من حزب الأمة والاتحادي الديمقراطي وما يعرف بأحزاب الحكومة، ولكن ما يزال الشباب اليساري من شيوعيين وبعثيين ومؤتمرجية حزب “إبراهيم الشيخ” أقصد “عمر الدقير” بعيدين عن الاتحاد الذي يقوده بحنكة ورؤية د.”بشار شوقار” الذي ينتمي إلى ثلاثة مكونات: جذوره تمتد لأقاصي غرب السودان ووطنه الجزيرة في بحر أبيض، وفكرته الحركة الإسلامية ومنهجه وسيط جعله في الأسبوع الأول من رمضان يعود لبيت “الترابي” الذي يمثل للإسلاميين رمزاً.. و”شوقار” وعقده في ذات الوقت.. لم يثر إفطار التواصل مع أسرة د.”الترابي” غباراً في الساحة بقدر ما انسكبت دموع وعواطف وآهات لفقدان المكان لرمزيته ورمزية الإسلاميين الذين يشعرون باليتم السياسي والفكري منذ أن هالوا التراب على جسد شيخهم في مقابر بري قبل ثلاثة أشهر من الآن.. ولكن في منزل الشيخ “علي عثمان محمد طه” الذي تجاوزه قطار خلافة “الترابي” الفكرية وتجاوزه قطار خلافة “البشير” في الموقع التنفيذي والدستوري، وبات خليفة “البشير” معلوماً للكافة ويملأ الساحتين التنفيذية والإسلامية بالحركة الدؤوبة.. والنشاط المفضي إلى قيادة الدولة والحزب، وإن طال الزمن فإن “علي عثمان” الذي صام كثيراً عن الكلام واختار النأي بنفسه حتى عن وسط الخرطوم حيث الصخب السياسي والضجيج.. ليذهب جنوب مدينة الخرطوم ويستريح في قصره الذي شيده حديثاً.. و”علي عثمان” من السياسيين الذين يتخيرون حديثهم كيف ومتى ولماذا..
لم يشأ الرجل الذي ظل بسيطاً في حياته الخاصة أن يتحدث ناقداً لمشروع الحوار الوطني ومشبهاً مخرجاته بمحتويات شنطة الحاوي.. وهي شنطة خاوية من أي شيء، لكن الساحر المضلل لنفسه وغيره يخدع جمهرة الناس البسطاء بأن في (جراب الحاوي) شيئاً مفيداً.. وهذا النقد اللاذع الساخر من الأستاذ “علي عثمان محمد طه” أثار غضب جهات عديدة داخل الحزب والحركة الإسلامية ظلت تنافس الرجل وتقلق وجوده ولم تدعه يستريح حتى مع توقيعه لاتفاقية السلام مع الجنوبيين، أجهضت تلك القوى الاتفاقية إمعاناً في هزيمة الرجل الذي كان قريباً من الرئيس حتى ظن الناس أن “علياً” سيأتي بعد “عمر” كما جاء في تراتيب الخلافة حيث لم يفصل بين “عمر” و”علي” إلا “عثمان بن عفان”.. فهل يكون “عثمان بن عفان” في التجربة السودانية هو الجنرال “بكري حسن صالح” أم أن “علي عثمان” قد تجاوزه القطار وانتهى دوره في المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية، كذلك آثر أن يقول كلمته بصورة ساخرة ويستريح من وعثاء الشكوك والظنون ويقطع شعرة معاوية مع الرئيس “البشير” الذي يقود ملف الحوار بنفسه ويضع عليه رهانه ويثق في أن مآلات الحوار ستنتهي باتفاق السودان على الحد الأدنى، وبذلك يكتب “البشير” بقلمه مخرجاً للبلاد من أزماتها.. لكن “علي عثمان” لا يرى في مشروع “البشير” السياسي إلا (حقيبة فارغة) وخديعة بصرية للمشاهدين.. ولم تمضِ ساعات على تصريحات “علي عثمان” عن الحوار إلا وتم تحريك الملف الذي كان ساكناً واجتمعت لجنة (7+7) وحُدِّد بصفة قاطعة الأسبوع الأول من أغسطس القادم موعداً لعقد الجمعية العمومية للحوار الوطني برئاسة “البشير” لإجازة التوصيات النهائية، هكذا حرك تواصل اتحاد الشباب الوطني الساحة من (ركودها) ورمى بحجر في بركتها الساكنة.
الهمس جهراً وعلناً
في منشطه الثالث اختار الاتحاد الوطني للشباب السوداني أن يمضي في تفجيراته السياسية.. وكانت المفاجأة ليست في جلوس أمين الشباب بحزب المؤتمر الشعبي بالقرب من “بلة يوسف” ولا أن يتوسط الأمين السياسي لحزب المؤتمر الشعبي “كمال عمر عبد السلام” الطاولة المخصصة للوزراء ليجلس بين “الطيب حسن بدوي” وزير الثقافة و”مدثر عبد الغني” وزير الاستثمار، وثالثهم د.”حاج ماجد محمد سوار” وزير شؤون المغتربين، ولكن المفاجأة كانت في (القفشات) والحديث الهامس بين الفريق أول “بكري حسن صالح” والسيد “مبارك عبد الله الفاضل” القيادي في حزب الأمة القومي.. وبدأت روح الانسجام والتوافق والود والتصافي بين الرجلين.. كمقدمة لما هو آت في الأفق السياسي مقبل الأيام، وبعد أداء صلاة المغرب كنت قريباً من السيد “مبارك الفاضل” الذي عاتبني قائلاً: معقول يا “يوسف” ما نشوفك منذ أديس أبابا، إذا برجل حزب الأمة القومي يتبادل التحية مع مهندس صفقات المؤتمر الوطني مع القوى المعارضة وأمينه السياسي “حامد ممتاز” قال “مبارك الفاضل” لـ”حامد ممتاز” :(كيف أمسيت) وهنا سألت السيد “حامد ممتاز” هل كان الصباح (يجمعكم).. ضحك “حامد ممتاز” بطريقته وآثر الحديث مع “الرشيد هارون” وزير الدولة بالقصر الجمهوري الذي يبدو هو الآخر يلعب في المناطق غير المنظورة وحينما جلس “مبارك الفاضل” في الطاولة الرئيسية بالقرب من الجنرال “بكري حسن صالح” والأمير “أحمد سعد عمر” القيادي في الحزب الاتحادي الديمقراطي و”حيدر قالوكوما” وزير الشباب والقيادي في حزب التحرير والعدالة برئاسة “أبو قردة”.. كانت قيادات المؤتمر الوطني تجلس في الصفوف البعيدة من أصحاب المقامات الرفيعة ومن بينهم بطبيعة الحال السيد “مبارك الفاضل” الذي يعتبر شخصية كارزمية فاعلة جداً ومفيدة للمؤتمر الوطني أكثر من الإمام “الصادق” الهائم في أشواق توحيد المعارضة وإسقاط النظام.. بينما “مبارك الفاضل” سياسي واقعي جداً.. يملك قدرة على الفعل السياسي بعيداً عن الأقوال التي لا تتطابق والأفعال.. وقد خسرته الإنقاذ من قبل دون مبررات.. لكثرة الوشايات والظنون والشكوك، إضافة إلى أن مراكز القوى التي أبعدها الرئيس “البشير” من السلطة كانت تنظر لـ”مبارك الفاضل” بالخطر المحدق بها وكتبت عنه التقارير وعن طموحه لينوب عن “البشير”.. حتى تم إبعاده خارج أسوار القصر الرئاسي، ولكن حتى اللحظة لم يكشف ما الأسباب الحقيقية التي أدت لإبعاد “مبارك الفاضل” حينذاك فهل بات ابن “المهدي” اليوم قريباً مرة أخرى من الجهاز التنفيذي أو القصر بعد أكتوبر القادم؟؟ وإذا كان “مبارك الفاضل” يقبل دعوة “بشار شوقار” بقلب مفتوح وصدر مكشوف فكيف لا يقبل دعوة الرئيس “البشير” للمشاركة في حكومة ما بعد أكتوبر القادم.
إقالة “بلة يوسف”
إذا كانت إقالة “محمد حامد البلة” والي نهر النيل قد شغلت الساحة السياسية طوال الأسبوع الماضي.. وعجزت الحكومة حتى الآن عن اختيار بديل لو “ود بلة” سواءً من بين قيادات المؤتمر الوطني بالنيل الأبيض المرشحة للمنصب وهم اثنان من العسكريين وثالثهم مدني.. ولم يستقر رأي القيادة حتى اليوم في اختيار العميد أمن “فيصل حماد” أو اللواء أمن “الطيب الجزار” وزير التخطيط العمراني الذي اشتهر بمناكفة حكام النيل الأبيض ومعارضتهم.. أما ثالث القيادات التي رشحت، فهو رئيس المجلس التشريعي “إسماعيل نواي السيد” وقد طالبت بعض قيادات نهر النيل بتعيين د.”عبد الحليم المتعافي” وقد تردد رفض القيادة لتعيين “عبد الحليم” بحجة أن الرجل (مدخر) لمنصب في التغييرات القادمة على صعيد الجبهة الاقتصادية.. وقبل أن يجف المداد الذي سال كثيراً عن إعفاء “ود بلة”.. جاء قرار نائب رئيس المؤتمر الوطني المهندس “إبراهيم محمود حامد” بإعفاء أمين الشباب في الحزب “بلة يوسف” من منصبه بعد الساعة الثانية من صباح الخميس، حيث كان “بلة يوسف” حضوراً في اجتماع المكتب القيادي الذي ناقش حزمة من تقارير الأداء التنظيمي.. وفسر بعض المراقبين إعفاء “بلة يوسف” على خلفية تنظيمه ومشاركته في لقاء التواصل الذي أثار الغبار الكثيف في منزل “علي عثمان محمد طه” ولكن “طه” نفسه كان حضوراً في اجتماع المكتب القيادي حتى الساعات الأولى من صباح الخميس وغادر الاجتماع قبل نهايته لتلقيه نبأ وفاة شقيقة والدته بالشمالية.. وانفض الاجتماع ليجد “بلة يوسف” نفسه خارج أسوار أمانة الشباب بالمؤتمر الوطني على طريقة مغادرة “ود البلة” لنهر النيل.
أصحاب القبعات الخضراء عام آخر في دارفور
تفاجأت الحكومة السودانية بقرار مجلس الأمن والسلم الأفريقي الأخير الذي أوصى لدى مجلس الأمن بتجديد ولاية قوات اليوناميد في دارفور لمدة عام آخر.. بعد الحملة التي قادتها وزارة الخارجية في الولايات المتحدة وأوروبا، مطالبة بإنهاء فترة قوات اليوناميد بدارفور باعتبار أن الأوضاع الأمنية قد استقرت واستطاعت القوات المسلحة وقوات الدعم السريع القضاء على التمرد في دارفور بنسبة كبيرة جداً.. واستتباب الأوضاع وفشل قوات اليوناميد في أداء مهمتها التي انتدبت من أجلها، بل يشكل وجود قوات اليوناميد عبئاً ثقيلاً على الأوضاع هناك.. باعتبارها تحظى بحماية من القوات المسلحة.. وظلت الحكومة تطالب طوال العام الماضي بخروج قوات اليوناميد.. وتبلغ مراراً المسؤولين عن البعثة في دارفور بأن وجودهم غير مبرر، بيد أن المسؤولين في البعثة الأممية الموجودين في دارفور لا يملكون شيئاً من تقرير مصيرهم.. وقرار مغادرة قوات اليوناميد تتخذه الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن.. وتتخذ هذه الدول من مجلس الأمن والسلم الأفريقي وكيلاً لها في القارة الأفريقية، رغم أن المجلس في تكوينه يضم السفراء المعتمدين من بلدانهم للاتحاد الأفريقي.. لكنه بشأن مهمته التي انتدب إليها يتخذ القرارات التي يطلبها (الراعي) والمشرف والممول دون أن تطرف له عين.. فهل كانت الدول الأفريقية التي يبتسم وزراء خارجيتها في وجه البروفيسور “إبراهيم غندور” تضحك على السودان وهي تتعهد بالوقوف مع خيار إنهاء وجود قوات اليوناميد في دارفور؟؟ أم ماذا حدث حتى يتخذ مجلس السلم والأمن الأفريقي قراراً مفاجئاً للجميع ويطالب بتمديد فترة قوات اليوناميد لمدة عام آخر.. لتذهب جهود الحكومة في إعداد إستراتيجية لخروج قوات اليوناميد أدراج الرياح وتتبدد الآمال والطموحات.. ويبقى أصحاب القبعات الزرقاء في الإقليم الذي انتهت فيه الحرب والمواجهة المباشرة مع المتمردين، ولكن دارفور مسكونة بالفوضى والانفلات في المدن.. وفي هذه الأيام من الشهر الفضيل تترى أخبار القتل والنهب.. والمواجهات بين الحرامية والقوات النظامية داخل مدينة نيالا التي شهدت خلال العام الماضي استقراراً جعلها تقيم أنشطة تجارية ومعارض وتم رفع حالة حظر التجوال حتى منتصف الليل بعد أن كان يسري منذ مغيب الشمس وتنفست المدينة الثانية من حيث الكثافة السكانية في البلاد بعد الخرطوم تنفست طبيعياً.. وغشاها الأمن.. ولكن عادت أحداث النهب وسرقة السيارات، لأن الذين يثيرون الفوضى أغلبهم جزء من الحكومة نفسها.. إما مليشيات استخدمتهم الحكومة في حروباتها العديدة أو من المليشيات الحليفة التي وقعت اتفاقيات مع الحكومة وظلت تحتفظ بسلاحها، وقد أصبح الإنسان في دارفور (أبخس) من (تيس الماعز) يقتل لأتفه الأسباب. ومما رواه الأستاذ “بقّال” في (قروب أخبار شمال دارفور) أن أحد أعمامه يقيم في منطقة كبكابية.. زاره يوماً في هجعة الليل أحد عصابات دارفور المسلحين.. قدم إليه طعاماً وشراباً ثم استضافه حتى صباح اليوم الثاني وحينما هم بالمغادرة وضع على جيبه هدية مالية.. شكره حامل السلاح على كرمه وشهامته.. وبعد يومين عاد الرجل مرة ثانية.. ليثني على الرجل الذي استضافه وقدم إليه هدية ثمينة.. وقال عدت لأسألك هل عندك زول زعلان منو أو عندك معه مشكلة عشان (نكتلو ليك).. هكذا أصبح قتل الإنسان في دارفور سهلاً وميسوراً ولا قيمة للإنسان أصلاً، وفي ظل هذا الواقع المزري المؤسف إن تم الإبقاء على قوات اليوناميد لمدة عام آخر فالحكومة وحدها هي المسؤولة عن ذلك.. لأنها غير راغبة أو عاجزة عن مواجهة عصابات التفلّت والقتل والنهب التي يتعدى أثرها حدود دارفور ليتخذ مجلس الأمن قراراته على خلفية مثل هذه الانفلاتات.
المجههر السياسي