نظرية بافلوف
وقُرِع الجرس بقوة في ذات اللحظة التي قدم فيها الطعام إلى الكلب الجائع. وكان كل مرة يجوِّع فيها الكلب يظل يراقبه حتى يُصاب بالأعياء ويشارف على الموت فيقدم له الطعام. وهكذا ظل هذا النظام (الجوع)، ثم الجرس والطعام) مستمراً لعدة أشهر)، ولمّا أطمأن السيد (إيفان بتروفيتش بافلوف المتوفي27 فبراير 1936م)، وهو عالم وظائف أعضاء روسي، حصل على جائزة نوبل في الطب في عام 1904 لأبحاثه الرائعة في الجهاز الهضمي، لما أطمأن إلى وجود (الاستجابة الشرطية) لدى الكلب، وأن رنين الجرس عنده ارتبط بالحصول على الطعام، انتقل (بافلوف) بالكلب إلى المرحلة التالية، فحذف بند الطعام من المعادلة، وأبقى على (الكلب والجرس)، فكان الكلب يجوع، ثم يدق الجرس ولا يأتي الطعام، ولاحظ (بافلوف) أن لعاب الكلب كان يسيل على الفور ما إن يرن الجرس.
أعلاه، باختصار شديد، هو نص نظرية )بافلوف) في الارتباط الشرطي، حيث أن الفعل هو صوت الجرس، ورد الفعل هو لعاب الكلب، وأن الفعل الأول إذا وقع، ارتبط به الثاني تلقائياً كرد فعل، ثم أثبت العلم التجريبي لاحقاً صحة هذه النظرية على سلوكيات البشر أيضاً.
بطبيعة الحال، وحينما اجترح (بافلوف) نظريته تلك، لم يكن ليتوقع أن يأتي يوم لتستخدم في غير أغراضها ولتحقيق أهداف مختلفة منها سياسية واقتصادية، لكن بعد نحو أكثر من نصف قرن من وفاته تواطأ السياسيون السودانيون بمختلف مشاربهم و(مآكلهم) على استعارة نظرية الارتباط الشرطي المختصة في الطب النفسي واستخدامها في الفضائين السياسي والاقتصادي، فما إن يصل أحدهم فردًا كان أو حزبًا أو (انقلابًا) إلى السلطة حتى يضع نظرية بافلوف ديباجة رئيسة يسوس بها البلاد والعباد.
وفيما لو مسحنا بأبصارنا وبصائرنا، خطفًا الواقع الاقتصادي، بمعنى (المعيشي) الراهن، فسنجد نظرية بافلوف ماثلة ومنجزة بشكل واضح لا لبس فيه، فالحكومة بمساقيها السياسي والتنفيذي ظلت تزجي الوعود (المُسيِّلة) للعاب للمواطن كلما طرأت مشكلة واستجد حدث، تقطع الماء وتذهب الكهرباء، فيأتي مسؤول (رفيع) مجازًا، فيخطب في الجمهور قائلاً: لدينا خطة جاهزة ستنجز خلال سنتين، وبموجبها لن نحقق الاكتفاء الذاتي فحسب، بل سنصدر مياه النيل إلى شبة الجزيرة العربية والأندلس وأنطاكيه وسائر المشرق وجل المغرب، أما كهرباء سدود مروي وستيت وكجبار فستنير ظلمتي آسيا وأوروبا، ثم يتنحنح نحنحة شحيمة دهينة، ويطفق ينشد: “كانت أوروبا ظلامًا ضل سالكه/ وشمس أندلسٍ بالعلم تهديها”، فيسيل لعاب المواطنين الأحرار الثوار جراء تلك الوعود ويتلمظونه، وتمر السنوات وتتفاقم الأزمة ولا يحصد المواطن سوى (رنين الجرس).
ذات النظرية تم تطبيقها في مراحل كثيرة في ما يتعلق بالمعيشة اليومية، وفي الأجور والمرتبات، وفي الخدمات الصحية والتعليمية والترفيهية ولا يزال لعاب المواطن يسيل حتى اليوم.