يبدو أن الدولة لم تكتف برفع يدها عن ملاحقة الفساد وكشف المفسدين، لكنها لا تريد لأي طرف آخر أن يقوم بهذا الدور، ومستعدة لمواجهته بأي طريقة حتى يتوقف عن هذا المسعى. أوضح دليل هو تعامل الدولة مع قضايا الفساد التي يكشفها الإعلام، فهي تبدأ بالإنكار والتجاهل، ثم تطالب الإعلام أن يلعب دور المباحث والنيابة والقضاء، وتختتم بالتهديد بالعقاب والمحاسبة والجرجرة أمام المحاكم.
ما أن تنشر الصحف شيئاً له علاقة بقضية فساد، حتى تبدأ أجهزة الدولة ومسؤولوها في الصياح والعويل مطالبة الصحافة بالدليل والإثبات والمستندات، فهي، أي أجهزة الدولة، مصممة للدفاع عن المسؤولين ومؤسسات الدولة الأخرى بشكل أعمى في مواجهة أي اتهام. وتنسى هذه الأجهزة أن الطبيعي، كما يحدث في كل دول العالم، أن تأخذ أجهزة الشرطة والنيابة وأجهزة مكافحة الفساد طرف الخيط الذي قدمته الصحافة، وتبدأ في البحث والتقصي مستفيدة من الإمكانات والسلطة التي تخول لها الحصول على المعلومات بأي طريقة.
دعنا نقدم أمثلة بدءاً مما حدث للخطوط الجوية السودانية من خصخصة وبيع صاحبتها أخطاء وجرائم كثيرة، انتهت بتصفية الشركة وتجريدها من أي طائرة، ثم بيع حق الهبوط في مطار لندن وهي القضية الشهيرة بـ”خط هيثرو”. لولا الصحافة لما فتح هذا الملف من البداية، ولولا إصرارها لتم قفله في وقت مبكر. وحتى بعد هذا الجهد الكبير و”واوات” الفاتح جبرة المستمرة، انحصر الاتهام في شخصين، رحل أحدهم للدار الآخرة، والآخر أجنبي لن تطاله يد العدالة.
لا تفتأ الصحف تتكلم عن بصات ولاية الخرطوم، المعروفة شعبياً باسم بصات الوالي، التي جيئ بها وسط زفة إعلامية كبيرة على دفعات، ولكن بعد سنوات قليلة هاهي عشرات البصات تتمدد في مخازن وساحات عرفت باسم المقبرة، عاجزة عن الحركة. لم تقض هذه البصات حتى نصف العمر الافتراضي الذي يفترض أن تقضيه في الخدمة. هذا ملف فساد واضح لا شك فيه، يقتضي مراجعة عروض الشراء والتعاقدات والشروط الفنية والأسعار واللجان التي أشرفت على الأمر، لا يمكن أن تأتي ببصات لخدمة جمهور الولاية ثم يتضح أنها غير صالحة للعمل، ويتم قفل الملف عند هذا الحد.
يمكن أن تضيف لملفات الفساد التي كشفتها الصحافة القضية المعروفة باسم فساد مكتب الوالي السابق، ثم عدداً من قضايا فساد الأراضي التي تورط فيها مسؤولون بدرجات مختلفة، وحتى القضية الأخيرة التي عرفت باسم إيجار عمارة وزارة الإرشاد والأوقاف.
تقوم الصحافة بأكثر مما يجب عليها القيام به، لا تكتفي بنشر المؤشرات وتوجه أصابع الاتهام فقط، لكنها تصل لمرحلة تقديم الوثائق والمستندات، وتحدد أسماء المسؤولين عن المخالفات والجرائم، ثم تكافأ بقرارات حظر النشر والإيقاف عن الصدور والمصادرات المتعددة.
إن لم تتوفر لدى الدولة الإرادة السياسية لمكافحة الفساد فلتكتفِ بأضعف الإيمان وتطلق يد الصحافة لتقوم بهذا الواجب الوطني المطلوب.