معارضة تحت الضغط
ليست الحكومة وحدها من يضيق صدرها بالنقد، فالمعارضة أيضًا تضيق وتتبرم، لكنها تفعل ذلك وهي مفككة الأوصال مبتورة الأطراف تدير أمورها بطريقة رزق اليوم باليوم، دونما تكتيكات أو استراتيجيات، غير النزوع للزعيق والصراخ والعويل والنحيب بأكثر مما تفعل الحكومة أحيانًا.
المعارضة تهلل وتكبر وتنفرج أساريرها وتتفتح تقطيباتها حينما تُمدح، لكنها سرعان ما تخرج من (سلتها) اللغوية عبارات وتوصيفات معلبة من شاكلة (غواصة، وموالٍ للنظام وممالئ له) تقذف بها كل من ينتقد أداءها أو يبدي ملاحظات عابرة حوله، ولو كان منضوياً تحت لوائها، وهي بالتالي تصادر الرأي الآخر وتدهس الحريات بأخفاف ثقيلة، ولنا في ذلك أسفار من الأمثلة تنوء عن حملها ظهور الحمير وأسنمة الإبل.
وكنا انتقدنا المعارضة ممن تسمى بقوى نداء السودان غير مرة في هذه المساحة عقب رفضها التوقيع على خارطة الطريق التي طرحها الوسيط الأفريقي ثابو أمبيكي، فيما وقعت الحكومة عليها، وكسبت بذلك احترام المحيط الإقليمي والمجتمع الدولي.
والحال، إن أداء المعارضة في مفاوضاتها الأخيرة مع الحكومة والوساطة الأفريقية رفيعة المستوى كان ضعيفًا وهشًا، الأمر الذي أعمى بصيرتها السياسية وأصاب عينها التفاوضية بالغشاوة، ويعزي مراقبون ذلك إلى تفاقم الخلافات والتناقضات بين مكوناتها علاوة على الصراعات الداخلية والتباينات العميقة بين كوادرها الرئيسة إلى حد وصول فيه الأمر أن بعضهم صار لا يطيق ليس رؤية الآخر فحسب بل حتى الاستماع إليه، فبدت كأنها سرب يطير كل واحد فيه إلى اتجاه مختلف.
بطبيعة الحال، كان لا بد أن ينجم عن ذلك نوعًا من الربكة (والهترشة) في الأداء السياسي للمعارضة عمليًا ونظريًا، ما أفضى في نهاية المطاف إلى تملل الوساطة الأفريقية ورئيسها والدول المحيطة الفاعلة في القضية السودانية والمجتمع الدولي منها، خاصة بعد أن استلت نصالها ولوحت بها أمام ثابو أمبيكي بعيد توقيع وفد الحكومة معه منفردًا على خارطة الطريق، مارس المنصرم في أديس أبابا الإثيوبية، فاشتد الحصار عليها وطوقها من كل حدب وصوب، وها هي الآن أمام ضغوط إقليمية ودولية هائلة لحملها على التوقيع، ما يضعها أمام اختبار معقد لن تنجو من عقابيله بأي حال من الأحول، فإن هي وقعت فإن هذا يعني اعترافًا ضمنيًا بأنها أخطأت المرة السابقة، وإن لم توقع فهي مهددة بمزيد من التفكك، لأن المؤكد حتى الآن أن أطيافًا منها ستُوافق على التوقع حتمًا، وعليه فإن من يرفض سيجد نفسه وحيدًا في مواجهة المحيط والمجتمع الدولي، ولربما لن يقبله أحد مرة أخرى وسيتخلى عنه أصدقاؤه وداعموه، كما حدث للرئيس السوداني الجنوبي (سلفا كير) إبان الأزمة الأخيرة، حتى موسيفيني كاد أن يتخلى عنه.
الآن، الكرة في ملعب المعارضة، وعليها قبل أن يضيق صدرها وتزعق فينا، أن تتذكر قول الإمام النفري رضي الله عنه “ليس أمامكم باب فتقصدوه، وليس وراءكم باب فتلتفتوا إليه”.