شاركتُ في ندوة البركة السابعة والثلاثين للاقتصاد الإسلامي التي عقدت في يومي الاثنين والثلاثاء الثامن والتاسع من شهر رمضان1437هـ، وتميّزت هذه الندوة بإعداد بحوث في الأحاديث النبوية الواردة في البيوع ببيان مفهومها العام وأحكامها الشرعية واستخراج مقاصدها الشرعية وعللها وبيان مآلاتها ، ثم التطبيق في ضوء ذلك على المعاملات المعاصرة في البيوع والمصرفية الإسلامية .. وهذا العمل يعتبر نواة لمشروع رائد يرجى أن يكون فيه النفع الكبير بربط هذه المعاملات بالوحي والاستهداء بتوجيهاته وبناء أحكام المسائل المستجدة بناء على المقاصد الشرعية واعتبارات المآلات، ومما ورد في مداخلتي بعض ما أورده في التوضيح التالي المتضمن بيان المقاصد للأحكام الشرعية في الشريعة الإسلامية، فأقول : 1/ الأحكام الشرعية شرعت لتحقيق المصالح ودرء المفاسد في العاجل والآجل : إن الأحكام الشرعية في شريعة الإسلام قد شُرعت لغايات مقصودة، وحِكَمٍ محمودة، يتحقق من خلالها السعادة في الدارين ، إذ تحقق السعادة منوط بتحقيق المصالح في العاجل ودرء المفاسد في العاجل والآجل، وهذا ما جاءت جميع الأحكام الشرعية في الشريعة الإسلامية لتحقيقه.ورغم كثرة الأحكام الشرعية وتعددها وتنوعها بين ما هو حق لله تعالى وما هو حق للمخلوقين وما يجتمع فيه الحقان، ورغم أن بعضها ورد في العبادات وبعضها في المعاملات وبعضها في الآداب والسلوك والأخلاق، وبعضها في الأموال وصنف في الجنايات وغير ذلك ، وبعضها أحكام عامة تشمل الرجل والمرأة ونوع خاص بالرجل وأحكام أخرى تختص بالمرأة، إلا أن جميعها جاء لتحقيق المصالح والمنافع الدنيوية والأخروية للفرد والمجتمع، ودفع المفاسد والمضار عنهم في الدنيا والآخرة. قال الشاطبي : (تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق، وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام: أحدها: أن تكون ضرورية.والثاني: أن تكون حاجية.والثالث: أن تكون تحسينية. فأما الضرورية، فمعناها أنها لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم، والرجوع بالخسران المبين والحفظ لها يكون بأمرين:أحدهما: ما يقيم أركانها ويثبت قواعدها، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب الوجود.والثاني: ما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقع فيها، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب العدم. فأصول العبادات راجعة إلى حفظ الدين من جانب الوجود، كالإيمان. والنطق بالشهادتين، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وما أشبه ذلك.والعادات راجعة إلى حفظ النفس والعقل من جانب الوجود أيضا، كتناول1 المأكولات والمشروبات، والملبوسات، والمسكونات، وما أشبه ذلك .والمعاملات راجعة إلى حفظ النسل والمال من جانب الوجود، وإلى حفظ النفس والعقل أيضًا، لكن بواسطة العادات. والجنايات- ويجمعها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر – ترجع إلى حفظ الجميع من جانب العدم. والعبادات والعادات قد مثلت، والمعاملات ما كان راجعا إلى مصلحة الإنسان مع غيره، كانتقال الأملاك بعوض أو بغير عوض، بالعقد على الرقاب أو المنافع أو الأبضاع، والجنايات ما كان عائدًا على ما تقدم بالإبطال، فشرع فيها ما يدرأ ذلك الإبطال، ويتلافى تلك المصالح، كالقصاص، والديات -للنفس، والحد- للعقل ، وتضمين قيم الأموال- للنسل والقطع والتضمين- للمال، وما أشبه ذلك. ومجموع الضروريات خمسة، وهي: حفظ الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل، وقد قالوا: إنها مراعاة في كل ملة) . وقال – قبل ذلك – : (ولنقدم قبل الشروع في المطلوب: مقدمة كلامية مُسَلَّمَة في هذا الموضع: وهي أن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معا، وهذه دعوى لا بد من إقامة البرهان عليها صحة أو فسادا) إلى قوله : (والمعتمد إنما هو أنا استقرينا من الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد استقراء لا ينازع فيه الرازي ولا غيره، فإن الله تعالى يقول في بعثة الرسل وهو الأصل: (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) ، (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ). وقال في أصل الخلقة: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) ، (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ، (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) . وأما التعاليل لتفاصيل الأحكام في الكتاب والسنة، فأكثر من أن تحصى، كقوله بعد آية الوضوء: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) . وقال في الصيام : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) . وفي الصلاة: (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) . قال في القبلة: (فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) .وفي الجهاد: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) .وفي القصاص: ( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) .وفي التقرير على التوحيد: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) ، والمقصود التنبيه. وإذا دل الاستقراء على هذا، وكان في مثل هذه القضية مفيدا للعلم، فنحن نقطع بأن الأمر مستمر في جميع تفاصيل الشريعة، ومن هذه الجملة ثبت القياس والاجتهاد، فلنجر على مقتضاه) . 2/ مقصد الشريعة من الأحكام الشريعة : تغيير وتقرير : تحقيق المصالح ودرء المفاسد الذي جاءت به شريعة الإسلام لم يكن على مقام واحد ، فإن التحقيق يفيد أن للتشريع مقامين : تغيير وتقرير . المقام الأول : تغيير الأحوال الفاسدة وإعلان فسادها وهو المشار إليه في قوله تعالى : (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ). فجاءت الأحكام الشرعية بتغيير كثير ما كان عليه الناس قبل الإسلام وقد يكون التخفيف إبطالاً لغلوهم فقد كانت المرأة المعتد عنها زوجها تتربص حولاً كاملاً فاستقر الحكم الشرعي إلى أربعة أشهر وعشر، إذ لا فائدة فيما زاد على ذلك، ففي هذه المدة يظهر الحمل إن كان برحم المرأة حملاً والمقصود الشرعي حفظ نسب الميت. والأمثلة كثيرة في التغيير، كما في تحريم قتل البنات الذي كان منتشراً في الجاهلية قبل الإسلام ، وفي تحريم أكل الربا الذي فيه إضرار بالفقراء وغير ذلك. والمقام الثاني : تقرير أحوال صالحة قد اتبعها الناس ، وهي الأحوال المعبر عنها بالمعروف في قوله تعالى : (يأمرهم بالمعروف) .فإن أموراً كثيرة توارثها البشر فيها من الصلاح والخير ونصح بها الرسل والحكماء والمربون والمعلمون والآباء حتى رسخت في البشر مثل إغاثة الملهوف ، ودفع الصائل ، والتجمع في الأعياد وغير ذلك. فلم تكن للشريعة غنية من بيان هذه الأحكام وضبط ما يحتاج منها إلى ضبط ، وليس المقصود بتلك الموروثات ما عليه العرب في الجاهلية فقط ، بل ما توارثه الناس في سائر الأمم سواء ما كان لدى العرب أو لدى غيرهم .. ومن تأمل ما أقره الإسلام مما كان موجوداً في الأمم قبل الإسلام وقارنه بما منعه الإسلام وغيره اتضح له بجلاء تام كون الشريعة الإسلامية جاءت بتحقيق المصالح ودر المفاسد والمضار. 3/ يتحقق بأحكام الشريعة الإسلامية جلب المصالح ودرء المفاسد حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى : الأحكام الشرعية في الشريعة الإسلامية وردت لتحقيق المصالح ودفع المضار ، ولمزيد من البيان في ذلك فإن المقصود بتحقيقها لتلك المصالح ودفعها للمفاسد من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى ، ولذلك فإن غير المسلم قد يفقد حلقة مهمة يعجز بسببها عن الفهم الصحيح للمقاصد التي راعتها الشريعة الإسلامية في تشريعها للأحكام ، فإنه مع ما يتضح من الحكمة من تشريع الأحكام الشرعية إلا أنه من الضروري أن يربط ما يتحقق من تلك الأحكام الشرعية بالحياة الأخرى التي ينتقل إليها الخلق بعد نهاية هذه الدنيا. وقد أجاد الإمام الشاطبي في بيان هذا الأمر بقوله : (المصالح المجتلبة شرعاً والمفاسد المستدفعة إنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى ، لا من حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية، أو درء مفاسدها العادية، والدليل على ذلك أمور: أحدها: ما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى من أن الشريعة إنما جاءت لتخرج المكلفين عن دواعي أهوائهم حتى يكونوا عبادا لله2، وهذا المعنى إذا ثبت لا يجتمع مع فرض أن يكون وضع الشريعة على وفق أهواء النفوس، وطلب منافعها العاجلة كيف كانت، وقد قال ربنا سبحانه (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ) . والثاني: ما تقدم معناه من أن المنافع الحاصلة للمكلف مشوبة بالمضار عادة، كما أن المضار محفوفة ببعض المنافع ، كما نقول: إن النفوس محترمة محفوظة ومطلوبة الإحياء، بحيث إذا دار الأمر بين إحيائها وإتلاف المال عليها، أو إتلافها وإحياء المال، كان إحياؤها أولى، فإن عرض إحياؤها إماتة الدين، كان إحياء الدين أولى وإن أدى إلى إماتتها، كما جاء في جهاد الكفار، وقتل المرتد، وغير ذلك، وكما إذا عارض إحياء نفس واحدة إماتة نفوس كثيرة في المحارب مثلا، كان إحياء النفوس الكثيرة أولى، وكذلك4 إذا قلنا: الأكل والشرب فيه إحياء النفوس، وفيه منفعة ظاهرة، مع أن فيه من المشاق والآلام في تحصيله ابتداء وفي استعماله حالا وفي لوازمه وتوابعه انتهاء كثيراً. ومع ذلك، فالمعتبر إنما هو الأمر الأعظم، وهو جهة المصلحة التي هي عماد الدين والدنيا، لا من حيث أهواء النفوس- حتى إن العقلاء قد اتفقوا على هذا النوع في الجملة، وإن لم يدركوا من تفاصيلها قبل الشرع ما أتى به الشرع، فقد اتفقوا في الجملة على اعتبار إقامة الحياة الدنيا لها أو للآخرة، بحيث منعوا من اتباع جملة من أهوائهم بسبب ذلك، هذا وإن كانوا بفقد الشرع على غير شيء، فالشرع لما جاء بين هذا كله، وحمل المكلفين عليه طوعا أو كرها ليقيموا أمر دنياهم لآخرتهم). .