هل غادر السودانيون من متردم، إلى بلدان ليست لهم..؟ وكيف ومتى يعودون إلى حضن الوطن..؟ الاغتراب ليس كله شرّاً، وإن كان من بين مظاهره انخراط كثير من المغتربين في داعش ..ثقافة السوداني في تنوعها، عصية على الذوبان ..السوداني يظل هو السوداني، ما دامت تصاحبه العمة والجلابية وأخلاق الزول الدغري الحبوب.. لو أردت التعرف على سودان السبعينيات وما قبله، عرِّج على تجمعات السودانيين في الخليج وأمريكا وأُوربا ..حتى أولادهم وأحفادهم يتشربون النكهة السودانية كقيمة مميزة، مهما اختلطوا بالثقافات المعولمة.. الهجرة ظاهرة انتهجتها ظروف قاهرة، وربما من هاجروا هم الأكثر ارتباطاً وتلاحماً مع واقع بلادهم.. ربما يعرفونه أفضل ممن يجلسون أمام ستات الشاي في جخانين العاصمة..الالتزام بقضايا الجماهير والناس، لا يتوقف على القرب الجغرافي، وإنما يتوقف أكثر على الاقتراب النفسي والفكري والروحي.. هناك من يعيش بين الناس ولا يحس معاناتهم.. الجائع ،أو النازح مفتقر الكرامة، أو ذاك الذي تلف حياته البداوة ويعاني الشح في الماء والضياء، لا ينتج ثقافة ولا ابداعاً.. مالم يعيش الإنسان حياة طبيعية في مجمتع طبيعي، لن يشارك في صنع الحضارة .. سيظل يستهلك منتج الآخر، وسيظل مكبّلاً، مهما اتّسع فضاؤه.. شباب الغربة يغوص كثيراً في خرائط التواصل الافتراضي، لكنه ليس معزولاً عن منتوج الطبيعة، من عاج وزينة الرِّياش.. ربما فشل المثقفون السودانيون في مقاربة العديد من المناهج والنظريات، فوقع على إثر ذلك انفصال في الذات، غير ذاك الذي ضاع معه ثلث الوطن ..لكن السودانيين أصحاب جذور، ويمتلكون ثقافة جديرة بالتنقيب، والفخر، والتعب، والتحديث، والمباهاة.. صحيح أن بعض النخبة يقلِد الآخر، وصحيح أن غالبية العامة لا تعترف بالآخر.. وصحيح أيضاً، أن شعورنا بالدونية يهزم رسوخنا.. ما ينقصنا هو ذاك المتمرد، المتحيِّز، المؤمن، الفنان، الذي يدفع بنا في الاتجاه الصحيح.. ما ينقصنا المثقف العضوي، (دُخري الحوبة)، الذي يعمل بما يعلم لخدمة الناس.. يخدمهم غير متعالٍ، دون من أو أذى .. ينقصنا المنتمي الذي يستوحي قضايا شعبه، الذي يقرن القول بالعمل والتنظير بالفعل.. قرامشي- صاحب المصطلح- كان طبيعياً جداً عندما تمرَّد على الفكرة الأولية / النهائية.. لم يكن ممكناً أن يُبدع فكرة ينساق خلفها جمع مِن الناس، دون أن تكون لديه إضافات.. منهج غرامشي، يحث الفرد على إعمال عقله، وهذا بالضبط ما حث عليه الإسلام، إذ أن كثير الآيات يحتوي على ، وتنتهي بـ ( أفلا يعقِلون- تدبرون- يفْقِهون) ..وقد جاء في الحديث، الذي ضعَّفه إبن الجوزية: (فِكرة سَاعة خيرٌ مِن عِبادة سِتينَ سَنة).. نفتقد الطليعي الذي يفارق القطيع بفهم ووعي.. ذاك المتمرد على الثوابت، الذي لا يقبل بالتنظير عوضاً عن المشاركة.. القرامشية لا تحتاج إلى بروستاريكا، لأن طبيعتها المُتحرِكة تقبل الإضافة والحذف..البروستاريكا تصبح ضرورة عندما يصل الفكر الى ربى التقاعس.. عندما وصل مؤتمر الخريجين تلك الربى، توزّعَ دمه بين طائفتي الختمية والأنصار.. تلك اللحظة من تاريخ السودان، يجب التوقف عندها.. تلك اللحظة المشار اليها، حملت ضمنا، تخلي الطليعة عن دورها، بتسليم قيادتها للطائفية.. ذاك هو المنعطف الذي تدحرجت بعده النخبة إلى الخيار الأسوأ، وهو الإلتحاق بالطغمة العسكرية.. عندما أصبحت النخبة تابعاً، أضحت مايو، كأنها عيد، من أعياد الانتلجنسيا..عندما أصبح الثقافي تابعاً للسياسي، افتقدتا الرؤية الاستراتيجية، فخسرناهما معاً..!
هذا السؤال، يحتاج فعلاً، الى (وثبة)..!
لم يحِل الإغراق محل التنقيب عن كنوزنا، و لِم نشوّه ملامحنا، ثم نتصارع حول جدل الهوية..؟