(الإنسان يعلو على الإنسان بالبحث عن المعنى (مصطفى محمود ..!
(1)
كنت أبحث عن شراشف وملاءات قديمة – بين حقائب الأمس العتيقة! – عندما تعثرت بفستان عُرس أمي الذي كان على موضة السبعينيات، قصيراً جداً، ضيقاً جداً، وبلا أكمام ..ففكرت كم أن الموضة بتصاميمها وخطوطها المطبوعة والمنقوشة، وبخاماتها المُطوَّعة على الفساتين والحقائب والأحذية، هي الوجه الأكثر صدقاً لتواريخ الشعوب.. هذا هو إذن فستان)قطع الرَّحَط (الذي عَبرَت – من داخله – أمي وقفَتَها الثورية إلى شرعيتها الدستورية ..! فعلت ذلك على طريقة نديداتها، وتحت مظلة قوانين عصرها.. دقَّتْ (الصاجة) وزَحزحتْ (الرَّملة) على رؤوس الأشهاد، فـ (بشَّر) الرجال وزغردت النساء؟! .. يا لسطوة تلك الأعراف.. كيف يتَسنَّى لها أن تخيط قناعاتنا.. أن تُطرِّز عقود الإذعان – لفرماناتها -على أقمشة عقولنا كما ترزيَّة الفستاين؟ ! .. بدا لي ذلك الفستان أيقونة تاريخية ناطقة، أوقفتُه أمام المرآة… كنت قد شرعتُ –بالفعل – في عقد المقارنة إياها، عندما اصطدمتُ بحقيقة أكثر إلحاحاً.. حقيقة مفادها تلك المتغيرات التي طرأت – ليس على صاحبة الفستان .. بل – على ابنتها التي تنتمي إلى جيل أكثر حداثة وأقرب خطوة من قوانين عصر الرشاقة التي لا ترحم.. وهكذا – وبقدرة قادر – تمخضت طرافة صدفة الفستان السعيدة عن السؤال الكئيب التالي: كم كان وزني قبل أن أنتقل من واحة الآنسات إلى غابة السيدات..؟! وكم أصبح اليوم بفضل عوامل التعرية النفسية والعاطفية التي تفرضها جغرافية الزواج.. مجرد سؤال ..!
(2)
قالت صاحبتي وهي تحاورني : (ماتخشِّي معانا صندوق) ..أعربتُ عن قلقي من طبيعة الضائقة المالية التي تمسك بتلابيبها، فقالت إنها وزوجها سينفقان (الصرفة) الأولى على رحلة استجمام بالخارج هرباً من ضغوط العمل.. سألتها: ألا ترين في تسديد كل تلك الأقساط بعد العودة من رحلتك السياحية لوناً فاقعاً من ألوان الضغوط ؟! .. كان سؤالي اقتصادياً امبريقياً بحتاً، لكنها تجاهلته مكتفية بإطلاق صوت عصيّ على الكتابة ..!
قبل أن يجف حبر حيرتي متَّعتني نعيمة الحنَّانة بالدهشة وهي تعرض علي جهاز موبايل فاقعٌ لونه يسر الناظرين، أجج حديثها عن (أوبشناته) الخطيرة معاناتي الدائمة مع رهاب التكنولوجيا.. كانت تحدثني عن(صرفة الصندوق) التي أنفقتها في تسديد ثمنه الباهظ وهي تشيح بكبرياء دوقة إنجليزية، فلم أجد مناصاً، أعدتُ سؤالي الاقتصادي الامبريقي البحت على مسامعها، فعاجلتني نعيمة بإصدار غمغمة ساخطة غير قابلة للنشر ..!
هذا هو إذن الحال الذي آلت إليه) صرفة الصندوق) النبيلة التي كانت تلعب دوراً عظيماً في تفعيل الديالكتيك الطبقي: خدمة نزوات السلوك الاستهلاكي البحت في مجتمع يعجز سواده الأعظم عن تأمين ضرورات الحياة.. إنها ولا شك أخلاقيات الانفتاح التي جعلت من احترام الآخر سلعة تُشترى بالمظهر .. نحن نواجه اليوم أخطر تبعات إنقاذ رقابنا بالقوة، وتحرير اقتصادنا بالضربة القاضية ..!
(3)
رجل شرطة إسرائيلي كان يقف كل يوم على حاجز أقامه الجيش الإسرائيلي في شوارع القدس لتفتيش الفلسطينيين، وبعد تفحص أوراق العابرين، كان ذلك الشرطي يصوب نحو الواحد منهم مدفعه الرشاش ثم يلقي إليه بفوطة، ويأمره بتلميع حذائه، وكانوا يفعلون.. إلى أن جاء يوم مر على ذلك الحاجز شاب فلسطيني رفض أن ينحني لتلميع الحذاء وحينما هدده الجندي بالقتل صاح في وجهه (اقتلني مائة مرة، لكنني لن ألمع حذاءك)، فما كان من الجندي إلا أن تراجع فوراً عن طلبه، وتظاهر بأنه يتلقى مكالمة على هاتفه المحمول، ثم أشار للشاب أن يعبر الحاجز .. إذا حاولنا أن)نؤنسن( الفكرة، بعيداً عن جنسية الشرطي أو الشاب العابر، سنخلص إلى قاعدة ذهبية مفادها أن العابرين من حاجز الكرامة هم الذين يحددون سلوك المعتدين بخضوعهم أو رفضهم لشيوع طبائع الاستبداد فيهم ..!