مجتمع ثري متفاعل..الكل يتلاحم معه، يفهم كل ما تود أن تعبر عنه هو المجتمع السوداني بكل مشاربه، وبيئاته..لغتهم العامة مفعمة بالحيوية..لغة تفاعلية مطاوعة.
إن كل الذين يعيشون في العاصمة أو يتوافدون عليها قادرون على التجاوب مع البيئة اللغوية التي أفرزت عامية واحدة تمثلها (عربية الخرطوم) القريبة جدا من الفصحى..تتكلم على سجيتك وهم يفهمون.. يقول “ااي” فتفهم أنت كمصري أنها (أيوه)/ نعم، حلوة شديد أو حار شديد فتفهم أنها (حلوة قوي أو الحر جامد) ببساطة جدا الكل قادر على التواصل، والتفاهم المتبادل في واقع معيش، وأيضا هم يقلبون الظاء ضادا في كلامهم مثل العامية المصرية (ظهر تقال ضهر)، والذال دال (ذهب تقال دهب) والثاء تاء (ثوم تقال توم) مثلنا تماما، ويمكنني أن أنادي أي امرأة وأقول لها يا خالة فتتفاعل معي على الفور، وهناك الكثير من الكلام المشترك بيننا.
وتقول الدكتور هداية تاج الأصفياء حسن البصري من جامعة النيلين، في ورقة بحثية مهمة لها بعنوان “اللغة في المجتمع..بالتركيز على عربي الخرطوم” “تعد اللغة المرآة التي تعكس حياة المجتمعات الإنسانية بما فيها من تنوع، وتعدد، واختلاف، ولعل لغة الحياة العامة في السودان هي الأكثر قدرة على خلق التفاعل الحقيقي بين مكونات المجتمع البشري”.
وتضيف” يلفت الانتباه إلى أن أهل السودان بمختلف مشاربهم، وبيئاتهم وانتماءاتهم يشتركون في مجموعة من الظواهر اللغوية والعادات الكلامية التي أنتجت بيئة تفاهم، واتصال مشتركة كبيرة وقوية، وبرغم وجود بعض الاختلافات في اللهجات من جهة إلى أخرى في نطاق ضيق وفي قليل من الصفات الخاصة بتركيب الكلمة، أو في معاني عدد من المفردات، وفي بعض الصفات الصوتية، غير أنهم يتفقون في لغة حياتهم العامة في المدن الكبرى فيما يمكن أن نطلق عليها أو نسميها (عربية الخرطوم)..حيث نجد اتفاقهم في معظم المفردات، ومعانيها، والأسس التي تسير عليها تركيب الكلمات، والجمل”.
وتتابع” لهذه الأسباب يتجه أغلبية الأجانب الذين تربطهم علاقات أعمال بالسودان سواء أكانت طوعية، سياحية، دبلوماسية، تجارية، ثقافية، تعليمية، وغيرها..إلى تعلم عربية الخرطوم التي تمثل أهل السودان عامة، وهي لغة تمكنهم من الاندماج في المجتمع السوداني ببيئاته الثقافية المتنوعة”.
وتشير إلى أن اختلاف الألسن إلى لغات، ولهجات تحمل كل منها خصائص، وصفات تميزها عن الأخرى، وتتميز لذلك الاختلاف كل قومية عن أخرى، رغم اشتراك أهل كل لغة في كثير من الخصائص اللغوية، التي تجعل من الاختلاف مدعاة لأن يتعرف الناس على لهجات، ولغات بعضهم البعض..عليه فقد أصبح الاختلاف دلالة على التنوع البشري الجاذب إلى التآخي، والتلاقي، والتفكير في شئون الحياة..يقول تبارك، وتعالى”ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم” صدق الله العظيم.
ويعرف رائد الدراسات اللغوية العربية الدكتور إبراهيم أنيس اللهجة بأنها “مجموعة من الصفات اللغوية تنتمي إلى بيئة خاصة، ويشترك في هذه الصفات جميع أفراد هذه البيئة”.
ونجد أن اللغة العربية على نمط عربية الخرطوم تختلف عن العربية نمط القاهرة، وعن العربية نمط الرياض، حيث يقول السوداني”ما عارف”، والمصري “ما اعرفش” بينما يقول السعودي “ما ادري”، وهذا ما يجعل الكثير من الدراسات تؤيد لغة الحياة العامة بالسماع، أو الإجماع أو القياس.
ويقول الخبير العالمي في مجال الترجمة د عبد الهادي محمد عمر تميم “إن العربية التي تستعمل في المجالات المختلفة هي الأقرب إلى صدارة الحياة اللسانية بالسودان”.
ونظرا للخصوصية التي تتمتع بها العامية السودانية “اللهجة” من حيث التاريخ نشأتها، وتعدد مصادر تغذيتها، وتنامي انتشارها، وأهمية الأدوار التواصلية التي تلعبها على المستوى القومي، فقد دعا د سيد حامد حريز في العام 1978 إلى تبنيها لغة قومية للسودان.
وهنا تعلق د هداية قائلة “ومعلوم أن هذا الاتجاه يعارضه الكثير من المختصين، والمهتمين باللغة العربية رغم أن العامية السودانية، أو ما يمكن أن نطلق عليها لغة الحياة العامة في السودان، أو ما يحلو لنا تسميتها بعربية الخرطوم هي لغة تقترب من الفصحى، ويمكن تطويرها باتجاهها”.
وقال البروفيسور عون الشريف قاسم في مقدمة قاموس اللهجة العامية في السودان “إن في السودان هيكل لغوي عام يشترك فيه الجميع ثم بعد ذلك يحدث التمايز، والاختلاف باختلاف المؤثرات والبيئات”، ولعل عربية الخرطوم تمثل لغة الحياة العامة التي يتواصل بها جميع أهل السودان دون ترجمان، بالتالي فهي تمثل ذلك الهيكل اللغوي العام الذي يجمع أهل السودان”.
وتؤكد د هداية أن لغة الحياة العامة في السودان التي تمثلها عربية الخرطوم استطاعت أن تصهر لهجات أهل السودان بمختلف ثقافاتهم، وبيئاتهم، واثنياتهم، وتبرزها في لغة حياة يومية تتصف بالمرونة، وسهولة الفهم لجميع الناس على مختلف أعمارهم، ومناطقهم..هذه اللغة (عربية الخرطوم) تسير على نسق من القواعد، إذ أنها تحتوي على عدد كبير من الألفاظ التي أهملتها الفصحى، كما أن أغلبية ألفاظها تنتسب إلى أصل عربي، أو قد أجريت مجرى العربية.
وتضيف “أو أنها محرفة قليلا عن الأصل العربي بقصد التسهيل، وأنها ترتكز على علم الأصوات الذي يشكل الأساس لدراستها، ما يساعد المعلم على تدريسها، كما أنها تنازع الفصحى بعوامل التحريف، والتصحيف، والاختزال، والزيادة، والإبدال، والنحت، والقلب، واللحن الدخيل، كذلك تستخدم بعض ما يتوافق معها من قواعد النحو، والصرف، وتحتفظ ببعض من الألفاظ، والتراكيب التي اختفت من العربية المكتوبة”.
وتقول د هداية، في ورقتها البحثية، “لعل ما يلفت النظر في لغة الحياة العامة أن الناس يستخدمون كثيرا من الألفاظ بتعميم منها على سبيل المثال (أم، وخالة) لفظان يطلقان على كل أمراة تشبة الأم، أو في هيئتها، وخالة لفظ يطلق على أخت الأم، وهذا الاستخدام شائع في السودان على اختلاف بيئاته”، وهو أيضا متواجد عندنا في مصر.
ويذكر د إبراهيم أنيس أن الناس في حياتهم العادية يكتفون بأقل قدر ممكن من الدلالات، وتحديدها، وهم بذلك قد ينتقلون من الدلالة الخاصة إلى الدلالة العامة، إيثارا للتيسير على أنفسهم، والتماسا لأيسر السبل في خطابهم.
وتشير د.هداية تاج الأصفياء إلى أنه يقال في لغة الحياة اليومية (ايدو طويلة) للدلالة على صفة السرقة، والشخص الذي يوصف بهذا الوصف في العامية هو الحرامي، السارق، وعلى العكس من ذلك تجد في الحياة العامة يتم وصف شخص ما (ايدو لاحقة) دلالة على النفوذ، والسلطان، و(ايدو رخية) دلالة على الكرم، والعطاء الكثير، وأيضا (ايدو خضرة)، وعكسها (ايدو ناشفة) دلالة على وصف الشخص غير الكريم.
إن لغة الحياة العامة في السودان أخذت بمبدأ التخفيف في العربية الفصحى للتيسير، وبغرض أن تتخلص لغة التخاطب اليومي من الثقل، والتنافر، والشدة، والتكرار، فيحدث التجانس بين الأصوات.
وتبين الدكتور هداية أن هناك تزايدا في تغيير الحروف بلغة الحياة اليومية (عربية الخرطوم) فمثلا الحرف ظ يتغير إلى ض ظهر/ضهر، وكذلك حرف ث يتغير إلى ت، تلاتاء، تلاتة، تور، توم، وذلك في (ثلاثاء، ثلاثة، ثور، ثوم)، وأيضا ذ يتم تغييره إلى ض ذنب، ضنب.
وأشارت أيضا إلى تفاعل الأصوات المتصلة، وتأثيرها في بعضها البعض، أو تأثر الصوت بمخرج الصوت المجاور فيحدث الانسجام الصوتي..على سبيل المثال: التماثل في نطق كلمة (شمش)، والأصل (شمس) حيث صارت السين شينا..وهذا ما نجده أيضا في صعيد مصر.
وتسرد أهم الخصائص الصوتية في عربية الخرطوم، حيث صوت الجيم شديد التعطيش عند فئات الشباب المعاصر، وتحذف الهمزة عندما تتطرف في الكلمات مثل (نسا، سما، شرا) أي (نساء، سماء، شراء، وقد تسهل الهمزة فتحذف، ويستعاض عنها بإطالة الحركة السابقة لها مثل (مامور/رأس/مومن) أي ( مأمور، رأس، مؤمن)، وقد عرف تسهيل الهمزة قديما عند القبائل الحجازية، وأيضا فاس وكأس (فأس، كأس)، وتحذف الهمزة بعد ياء النداء مثل ياخ في قول يا أخ.
وأوضحت أنه توجد في لغة الحياة العامة بعض الأسماء التي انتقلت من الفارسية إلى العربية، والملاحظ أن بعضها قد لحق بها شيء من التحريف في لسان العامة منها أسماء البهارات، والمكسرات، والأواني، منها على سبيل المثال: الجنزبيل، الغرنجال، الكافورة، الجك، الطشق)، والأسماء الصحيحة هي (الزنجبيل، قلنجال، الكافور، الإبريق، الطشت).
وتؤكد د هداية ضرورة الاهتمام بلغة الحياة العامة من أجل تعليمها، وتعلمها في وقت يشهد فيه السودان انفتاحا واسعا على العالم.
من جهته، يقول إبراهيم يحيى عبد الرحمن الأمين العام لمجلس تطور، وترقية اللغات القومية “تشير الدراسات، والمسوحات اللغوية التي أجريت في السودان إلى أن عدد اللغات المتحدثة في هذا البلد يربو على المائة، ويوضح أن اللغة إضافة إلى كونها الوسيلة التي يتواصل بها الناس بعضهم مع البعض الآخر، ويفكرون، ويعبرون، ويبدعون بها فإنها تعد جزءا من هوية المجموعة التي تتحدثها.
واللغة كمكون أساسى في الثقافة لأية مجموعة تعكس أحوال، وخصائص المجتمع الذي توجد فيه، وتاريخه، وثقافته لذلك يرى علماء اللغة أن الفهم المتعمق لأي شعب أو مجموعة يمكن حصوله عن طريق معرفة اللغة.
ويقول الأمين أبو منقة محمد في كتابه (لغات السودان..مقدمة تعريفية) “ارتبط السودان في عدد من الدراسات، والأبحاث المدققة بصفة “مصغر أفريقيا” أو أفريقيا المصغرة، تلك الصفة التي تظهر ما تزخر به من تنوع، وتباين على كل الأصعدة..فمن المنظور اللغوي ارتكازا على تلك الصفة يتحدث في السودان أكثر من مائة لغة تتداخل مع بعضها البعض.
ويوضح الكاتب الفرق بين مصطلحي اللغة، واللهجة، ويقول “إنه بأسلوب مبسط إذا تحدث شخصان، ولم يفهم أحدهما كلام الآخر، فإنهما يتحدثان لغتين مختلفتين، هذا بغض النظر عما إذا كانت أية من اللغتين مكتوبة أو غير مكتوبة، واسعة الانتشار أو محدودة النطاق، موصوفة القواعد أو غير ذلك..ونجد أن هذا يتفق مع تعريف ابن جني للغة بأنها ” أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم”.
ويضيف الكاتب” ووفقا لهذا التعريف، إن النوبية، والبجاوية، والدينكا، والنوير…إلخ كلها لغات، أما إذا تحدث شخصان نمطين من الكلام متشابهين مع وجود بعض الاختلافات النطقية، واللفظية، ومع ذلك فهم كل منهما كلام الآخر، فإنهما يتحدثان لهجتين للغة واحدة، مثال لذلك لهجة دينكا بور ودينكا ريك (من لغة الدينكا)، ولهجة الهدندوة، ولهجة البشاريين (من اللغة البجاوية)، ولهجة الحمر، ولهجة الشايقية (من اللغة العربية)، فاللهجة إذا نمط من أنماط اللغة.
واستعرض أهم ملامح الخريطة اللغوية السودانية..مشيرا إلى أن من بينها كثرة اللغات، قائلا” لا أعتقد أن هناك دولا أفريقية تفوق السودان في هذا المجال سوى عدد قليل من الدول منها نيجيريا، والكونغو الديمقراطية..لقد أورد الإحصاء الأول (1965 م) 113 لغة، وأوردت إحصاءات تالية أخرى أرقاما مختلفة، وذكرت قائمة اثنولوج أنها 132 لغة..إن الوصول إلى العدد الصحيح للغات السودان ليس بالأمر الهين، لصعوبة تحديد الخط الفاصل بين اللغة، واللهجة بصورة صارمة”.
وأوضح أنه يصعب تحديد إذا كان نظامان تواصليان معينان لغتين مستقلتين أم لهجتين للغة واحدة، مضيفا ” كذلك نجد في بعض مناطق الجنوب أسماء متعددة لذات اللغة مثل الكاكوا، والفوجلو، والمنداري، والباري فيحسبها بعضهم لغات مستقلة”.
ومن الملامح الأخرى التي سردها، تنوع اللغات حيث إنها تتوزع في ثلاث من بين أربع عائلات لغوية صنفت فيها جميع اللغات الأفريقية (تصنيف جوزيف غرينبيرج عالم اللغات الأفريقية الشهير)، وهي الأفروآسيوية، النيجر كردفانية، النيلية الصحراوية، والعائلة الرابعة وهي الكويسانية.
كما يعد عدم التكافؤ في التوزيع الجغرافي من ملامح الخريطة اللغوية السودانية، حيث يستأثر النصف الجنوبي من الخريطة بنحو 70% من مجمل لغات السودان، لاسيما جنوب السودان، وجبال النوبة، وتعتبر هذه المنطقة أكثر مناطق أفريقيا، وربما العالم كثافة، وتنوعا لغويين، بينما لا نجد في أقصى شمال السودان أكثر من ثلاث لغات، وفي الشرق لغتين فقط (البجاوية والتقري/بني عامر)، بالمقابل يتصف النصف الشمالي للخريطة، وبالأخص وسط السودان بالكثافة اللهجية، نسبة لكثرة اللهجات العربية فيه.
ونجد من أسرة اللغات الأفرو – آسيوية:السامية (اللغة العربية، ولغة التقري)، الكوشية (البجاوية وهي تسود في شرق السودان)، التشادية (الهوسا، ويوجد متحدثوها في أحياء خاصة بهم تحت اسم الفلاتة في معظم المدن الكبرى الواقعة بين الجنينة وبورتسودان)، البربرية (الطوارقية، ويتحدثها من يعرف بالكنين في الفاشر، وهم قليلون عددا).
ويؤكد الكاتب أن اللغة العربية منذ إحصاء العام 1956م هي اللغة الأولى الرئيسية، والوحيدة التي يتكلمها أكثر من نصف السكان، ويتكلمها بقية السكان بنسبة عالية تصل إلى 80 % كلغة ثانية، وثالثة (بإضافة الذين يتكلمونها كلغة أم).
وتعد لهجاتها المختلفة بكل أنواعها، وأنماطها وسيلة للتواصل، والتفاهم بين مختلف المجموعات السكانية، والتي كما أسلفنا تتحدث نحو المائة من اللغات المختلفة، بمن فيهم سكان الجنوب.
وبخلاف اللغة العربية، ولغة الدينكا بالنسبة للجنوب، ليست هناك لغة أخرى من لغات السودان تعد لغة أغلبية.
تستخدم اللغة العربية كلغة أم لأكثر من نصف سكان السودان يتركزون بصفة خاصة في المنطقة المحيطة بملتقى النيلين، وتمتد بينهما جنوبا حتى الحدود الجنوبية لولاية سنار، وهي أهم مناطق القطر من حيث الكثافة السكانية، والتطور الاقتصادي، والثقافي، كما تستخدم لغة ثانية في مناطق التداخل اللغوي في بقية الأقاليم.
وبهذا الوضع تلعب اللغة العربية دورا حيويا كوسيلة تواصل، وربط بين مجموعات من السكان تتحدث نحو مائة لغة، فهي اللغة الرسمية، ولغة التواصل على مستوى الدولة ككل.
وهذا الوضع المتميز للغة العربية في السودان مرتبط أيضا بمقامها كلغة علم، ومعرفة، ولغة الدين الإسلامي.
أ ش أ