رشا قنديل: تعيس الحظ يلاقي العضمة في الفشفاش! نعم حاورت شيخ الامين المثير للجدل في السودان

السودان.. الصوفية.. والسياسة..

ثلاث كلمات كافية جدا لجذب نظري لموضوع ولضيف.

فلي بالسودان علاقة حنين خاصة. تلهمني ثقافته الخصبة، التي كمصريين وقراء كثر عززتها أقلام أدبائه، وتفانينهم في تصوير تاريخه ونمنماته المستعصية على الغريب. فالأستاذ الطيب صالح، الأديب السوداني ذو القامة، كان يا سادة زميلاً في هيئة الإذاعة البريطانية. وقد يكون من التطاول أن ننعت أساتذتنا بالزملاء.. لكنه شرف على أي حال.

لفتني إلى عالمه أستاذي المرحوم حسن أبو العلا. أرشدني إلى دنياه الملونة، يكاد يلفحك فيها حر السودان المعبق بالمسك. على الرغم من أن الأستاذ الطيب غادر السودان الى بريطانيا عام 1952، وعمل في القسم العربي بهيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي حيث شغل منصب مدير لقسم الدراما، إلا أنك لا تكاد تمرر عينيك على أحرفه حتى تدرك شديد حنينه وعشقه لتراب بلده.. السودان.

بدأت رحلتي م ع الأستاذ الطيب بواسطة عقده، روايته “موسم الهجرة الى الشمال” التي نشرت في بيروت عام 1966. وقدمتني إلى عالم طالما تقت إلى رؤيته رؤيا العين. نقلني الأستاذ الطيب – كما نقل معظم من قرأها – إلى عوالم ملونة سحرية، ليمزج بينه وبين عالم المهجر وما فيه من أتراح وأفراح. أتممتها ولم أرتو، فبحثت عن أخرى. بالصدفة وقعت يدي على “ضو البيت”، بعدها بحثت عامدة مع سبق الإصرار عن “دومة ود حامد”. وأعترف أنني شُغلت عن الأستاذ الطيب بغيره ولم أقرأ “مريود” أو “عرس الزين” لكنهما موصوفتان.

عشر سنوات مرت، منذ ارتشفت عبق الثقافة السودانية الأدبية في كلمات الأستاذ الطيب. قرأت فيها مئات الكتب لكتاب من مختلف الأجناس والثقافات.. إلى أن وصلتنا لندن رواية الرائع حمور زيادة “شوق الدرويش”. سبقتها سمعة الرجل أديبا وصحفيا، وسيرة كتبه الأسبق، وجائزتان: إحداهما جائزة نجيب محفوظ عن الرواية ذاتها عام ٢٠١٤، وأخرى رشحته لها عن الدرويش دار العين للنشر وهي الجائزة العالمية للرواية العربية ٢٠١٥ (بوكر) ليصل قائمتها النهائية. وصلتني الرواية ثلاث مرات من ثلاثة أصدقاء، اثنان منهما في القاهرة، وثلاثتهم يقولون فيها شعرا. أتذكر أنني بدأت قراءتها في عطلتي الأسبوعية، وحرفيا أتممتها في ليلتين. والباقي حتما تعرفون، فقد قيل فيها ما يغنيكم عن رأي قارئة متواضعة.

المهم أن الأديبين أصقلا إعجابا غير خاف بدواخلي بالسودان.. الثقافة والأرض والرحيق.

بين السنوات العشر، أرهقتني مدارس الصوفية في السودان بحثا. فالصوفية والكثير عني يعرفون، عشق وعالم خاص، فننت مدارسه السودانية في تعميق أصوله وعوالمه. ربما أكثر ماأفادني على الطريق لعالم الصوفية السودانية مقال تقديمي لزميلي وصديقي العزيز صفاء الصالح، حين كتب من السودان عن مدارسه الصوفية، وتميزه و طرقه القديمة والحديثة.

أستعير من زميلي صفاء – وأظن أنه لن يمانع – فقرة تضيف إلى تفصيله مدارس الصوفية السودانية، ملمحا عن طقوس بعض هذه المدارس العريقة.

الشعائر: اذكار واوراد

يمثل الذكر جوهر الممارسة الصوفية، منذ تطورها في القرن الثاني الهجري، وتعني كما وردت في القران الكريم عبادة الله، كما يورد المستشرق تريمنجهام انها ترتبط ايضا بكلمة (ذكران) التي استخدمها السريان بالمعنى ذاته وينقسم لدى الطرق الصوفية الى ذكر صامت او خفي وذكر جلي.

وقد تحول الذكر لدى بعض الطرق الصوفية من ممارسة صوفية تعبدية تأملية إلى طقس جماعي يشترك فيه أبناء الطريقة . ويرى بعض الباحثين أن الطرق السودانية قد أدخلت عناصر افريقية مميزة في ترديد الأغاني والذكر تخلو منها الصوفية المشرقية.”

من مقال الزميل صفاء الصالح المنشور على موقع بي بي سي عربي بتاريخ ١٢ مايو ٢٠٠٧.

من مقالات وأبحاث عدة استشفّيت التداخل بين مدارس الصوفية السودانية الحديثة ومراحله السياسية. ربما تداخل ليس مباشرا، وربما صيغته أكثر تعقيدا من أحكام عريضة مباشرة، وهو مفصل أكثر في مقال صفاء، وإنما في ضوء مراحل مفصلية مر بها السودان سياسيا، لا يمكن فصل هوى الناس عن أدمغتهم.

الشاهد أن الأزمات السياسية والمواجهات والاحتراب، تارة بين شمال السودان وجنوبه الذي انفصل عنه فيما بعد، وتارة بأزمة الرئيس السوداني مع محكمة الجنايات الدولية في ضوء مآسي إقليم دارفور، وحينا بين تيارات المعارضة التقليدية الأصيلة وشباب المعارضين، ثم بين الفصيلين من جهة والحكومة ورأس الدولة في الخرطوم من جهة أخرى. الحوار الوطني، رحيل الترابي، المظاهرات الشعبية، والكثير الكثير الذي تموج به حياة السودانيين وساستهم- كل هذه الأزمات ملفات عملت عليها بعمق لسنوات، عشرات المسؤولين ومئات المواطنين حاورتهم وجادلوني، في نقطة حوار والعالم هذا المساء وبلا قيود.

إذا لا عجب أن تكون الكلمات الثلاث كافية ليقنعني معد البرنامج الزميل حيدر الصافي بالضيف الجديد. الاسم: شيخ أمين عمر الأمين. والتقديمة الأولى: شيخ من مشايخ الصوفية مثير للجدل بالسودان لأسباب بعضها ديني وبعضها سياسي. شيخ وصوفي وسوداني وسياسي؟ أحمدك يارب! كانت التقديمة كافية لأقبل مبدئيا وأبدأ البحث. نصف ساعة كانت كافية جدا لتذهب أمنياتي أدراج الريح، فالصوفية غير التي عرفت وألفت شكلا ومضمونا، والسودان الذي يمثله الشيخ وفقا لمنتقديه طبقي بنكهة عالم الأعمال داخل وخارج السودان إلا أنه ينفي بل ويلحف في النفي، والسياسية ملتبسة يقع فيها الشيخ بين الإمارات والسودان وكأنه بين شقي الرحى.

ولا أخفيكم، قفز إلى ذهني مثل سوداني شديد الشبه بمثل عامي مصري نعرفه، وجدت لسان حالي يؤنبني بالسودانية الدارجة: تعيس الحظ يلاقي العضمة في الفشفاش!

لكن مهلا، فكل ماقرأت عن الضيف كان حافزا أكبر لتحديه ومنحه الفرصة ليرد عن نفسه في آن معا. فأنا ياسادة لا أحكم على كتاب من غلافه ولا أعتمد الأحكام المسبقة للآخرين، ولا أءنس إلا لعقلي في وضع الأمور في الميزان. قررت الموافقة على استضافة شيخ أمين وتركت أمر الترتيبات لزملائي الكرام. انفردت أنا ليومين بما كتب وأذيع عن الرجل. نسيت انطباعاتي الأولى عن الحلقة وما يمكن أن تكون، وأعملت عقلي فقط. عن الإمارات والأعمال والصوفية الحداثية كما يسميها، ما وراء احتجازه ومنعه من دخول الإمارات، ثم احتجازه في السودان وإغلاق زاويته، ناقشت شيخ أمين عمر الأمين في بلا قيود – الأحد الخامسة والنصف مساء بتوقيت غرينتش.

بقلم: رشا قنديل
bbc

Exit mobile version