دائما ما كان السودان هو الحليف الطبيعي لمصر في مواجهة إفريقيا وهذا الأمر كان يُغضب الأفارقة كثيرا حتى أنَّ الزعيم السنغالي ليوبد سيدار سنغور قال ذات مرة أن «السودان بدلاً أن يكون أفضل الأفارقة اختار أن يكون أسوأ العرب» عندما قرَّرت السودان الانضمام لجامعة الدول العربية والانحياز للموقف المصري في الساحة الإفريقية على طول الخط. مرَّت 60 سنة على هذه المقولة و يبدو اليوم أن السياسيين السودانيين قد قرروا أن ينحوا بسياسة خارجية مستقلة عن مصر في إفريقيا تقوم على مصالح الدولة السودانية بدلا من اللهاث خلف دعاوى «الأمن القومي العربي».
إثيوبيا: مارد إفريقيا الصاعد الذي تحتاجه السودان
في أواخر عهد الرئيس مبارك، وتحديداً في فترة ما بعد عمرو موسى في الخارجية المصرية، تم إهمال إفريقيا تماماً لصالح قضايا الهلال الخصيب «العراق وفلسطين ولبنان» و قضايا الصِّراع الاستراتيجي مع إيران ونتيجة لهذا تم إخلاء الساحة الإفريقية من مصر ومع نشوء الاتحاد الإفريقي في 2002م برزت أربع دول إفريقية كبرى هي إثيوبيا في الشرق وجنوب إفريقيا في الجنوب ونيجيريا في الغرب والجماهيرية الليبية في الشمال، وكان الجامع الأساسي بين هذه الدول أنها دول إفريقية مستقرة و قوية اقتصاديا وقادرة على القيام بأدوار في حل مشكلات القارة، فكان التدخل الإثيوبي لمكافحة الإرهاب في الصومال وكانت الوساطة الليبية ثم الوساطة النيجيرية في دارفور.
الأفارقة اختاروا أديس أبابا كعاصمة لهم وكان للرئيس الإثيوبي ميليس زيناوي دور في تهدئة الأزمتين السياسيتين في كينيا و زيمبابوي بعد أزمة الانتخابات الرئاسية في البلدين في 2007-2008 م. وبينما كان هذا التعملق الإثيوبي إفريقياً كانت لمصر مواقف رمادية من تلك الأحداث أو لم يكن لها مواقف من الأساس. نتيجة للعلاقة الخاصة بين الرئيس البشير و الرئيس الإثيوبي السابق ميليس زيناوي، استطاعت إثيوبيا استصدار قرار من الاتحاد الإفريقي برفض توقيف عمر البشير و تحريض الأفارقة ضد المحكمة الجنائية الدولية، باعتبارها أداة سياسية، بينما كان موقف مصر من قضية البشير و الجنائية الدولية هو موقف طلب تأجيل توجيه الاتهام للبشير، كونه رئيس دولة. شتَّان إذًا بين موقف إثيوبيا التي أرغمت الدول الإفريقية، حتى الموقَّعة منها على ميثاق روما، باستقبال البشير على أراضيها و كسر قرار المحكمة، وبين مصر التي لم تطلب من الدول العربية نفس الشيء.
يضاف لكل هذا الدور الإثيوبي الإيجابي في حل قضية الخلافات بين السودان و جنوب السودان و يصل هذا الدور الإثيوبي ذروته بإرسال قوات إثيوبية إلى منطقة أبيي المتنازَع عليها كحلٍ مؤقت حتى قيام استفتاء أبيي المؤجل من 2011م .
و مع كل هذا فالعلاقات السودانية الإثيوبية أيضا مهمة في الجانب الاقتصادي؛ فالتقديرات تتحدث أن المستثمرين السودانيين يأتون في المرتبة الثالثة في الاستثمار في إثيوبيا بعد الصين والسعودية، حيث تبلغ الاستثمارات السودانية في إثيوبيا حوالي مليار و 600 مليون دولار أمريكي. وفي المقابل تعتمد إثيوبيا على السودان في تصدير منتجاتها إلى العالم وللتبادل التجاري نظرًا لكونها دولة حبيسة لا تمتلك موانئ.
ويضاف إلى كل هذا زحف الإثيوبيين للعمل في السودان و هذا ظاهرٌ للعيان خصوصا في مدينة الخرطوم و هذا الأمر ساهم في التداخل بين السودان و إثيوبيا بهذا الشكل لأول مرة منذ الثورة المهدية التي قاتلت الأحباش و انتصرت عليهم و قطعت رأس ملكهم في القلابات.
مصر لم تَعُد تملك شيئًا لتُقدِّمُه للسُّودان
لا يستطيع أن يظلَّ السودان معاديا للدول الإفريقية من أجل مصالح مصر المائية بينما مصر لا تعتبر المصالح السودانية أبداً بل وتفتح القاهرة ذراعيها كمكان لتجميع و إيواء المعارضة السودانية والحركات المسلحة، وتوافق على أن يقوم حليفها خليفة حفتر بتمويل و دعم حركات دارفور المسلحة ليقاتلوا معه قوات فجر ليبيا «أي أنَّ مصر ترى أمنها القومي بمحاربة الإسلاميين أولى من أمن السُّودان القومي بدعم حركات انفصالية بالسِّلاح»، وترفض مصر التفاوض مع السودان على مثلَّث حلايب، ناهيك عن رفض تنفيذ مصر لاتفاقية الحريَّات الأربع بين البلدين الموقعة من زمن الرئيس حسني مبارك بحجة التهديدات الأمنية، في حين أنها مستمرة في اتفاقيات الحريَّات الأربع مع ليبيا التي تحولت إلى وكر للإرهاب الدولي.
قديما كان السودان يعتمد على مصر في الحصول على الدعم العربي، ولكن مصر اليوم تحولت من «دولة داعمة» إلى «دولة مدعومة»، والسودان استغنى عن الدعم المصري بالدعم السعودي و الإماراتي. يحكي الدكتور «الطيب زين العابدين» أستاذ العلوم السياسية قصة تدل على هذا الانقلاب في الأحوال؛ فبعد حادثة محاولة الاغتيال الفاشلة لحسني مبارك في 1995 وقعت 27 دولة افريقية على بيان يدين السودان ويتهمها بالوقوف خلف الهجوم، و قالت هذه الدول أنها مستعدة للذهاب إلى الأمم المتحدة لاستصدار قرار منه ضد الحكومة السودانية، ويدور الزمان دورته و بعد 18 سنة من هذه الحادثة يقرر مجلس الأمن و السلم الإفريقيين أن يعلِّق عضوية مصر في الاتحاد الإفريقي بالإجماع، و سط اعتراضات مكتومة من الجزائر و موريتانيا، وتظل عضوية مصر معلقة لمدة عام، ويقوم وزير خارجية مصر «نبيل فهمي» بالطلب من السودان التوسط لدى الاتحاد الإفريقي ليعيد عضوية مصر و هذا ما رفضه السودان و تحجج أنه لا يتدخل في الشأن الداخلي المصري بالإضافة إلى عدة إملاءات يحكي تفاصيلها الصحفي عمرو سلامة القزاز
و مع كل هذا تأتي إثيوبيا لتعرض على السودان عرضًا سخيًا لا يُرفَض هو أن يقوم سدُّها بتخزين الطَّمي الذي يعيق عمل السدود السودانية و أن يحول سدها نهر عطبرة من كونه نهرا موسميا يبدأ في الخريف و يجف في الصيف إلى نهر دائم بحيث تزداد كمية الكهرباء المولدة في السُّدود السودانية على نهر عطبرة من 120 ميغاواط إلى 320 ميغاواط وهذا بالإضافة إلى أن إثيوبيا أعلنت استعدادها منح السودان 500 ميغاواط من كهرباء سد النهضة.
مصر و قضية مياه النيل
مصر لا تتذَّكر أنها جزءً من إفريقيا إلا في أوقات مباريات كرة القدم. و إثارة قضية مياه النيل بهذه الصورة ليست إلا تأكيدا جديدا على القناعة الراسخة لدى الأفارقة بأن مصر تنظر لهم دوما نظرة استعلائية. وقضية التعامل المصري مع مياه النيل هي قضية حساسة جدًا لزعماء إفريقيا، فقد تم تسريب خبر بعد اتفاقية كامب ديفيد أن مصر تريد بيع ماء النيل لصالح اسرائيل عبر ما سمي بترعة السلام ليكون ماء النيل بمثابة «ماء زمزم» ليشرب منه كل أتباع الديانات السماوية «كما زعم أنور السادات» و هذا الأمر يستفز الأفارقة الذين لا يريدون خروج ماء النيل خارج قارتهم و كان للرئيس الأثيوبي منجستو ماريام دور في إيقاف هذا المشروع كونه كان شيوعيا يعادي أمريكا و مصالحها في الشرق الأوسط و كان جزءاً من تحالف عدن اليساري ضد السادات «اليمن الجنوبي-إثيوبيا-ليبيا».
هناك انطباع خاطئ عند المصريين هو أن الشعب المصري يمتلك النيل بشكل حصري في حين أن النيل تملكه جميع الدول التي يَمُرَّ النهر بها أو يَنبُع منها وعندما يحضر وزراء الرَّي المصريين إلى اجتماعات دول حوض النيل دائما ما يبدأ وزير الري المصري كلامه بافتتاحية أنَّ مصر هبة النيل كما قال هيرودوت، ومن ثم يستفز الوزير المصري زملاءه فيقول أن مصر تطالب بزيادة حصتها من مياه النيل – رغم أن مصر صاحبة الحصة الأكبر في مياه النهر بالفعل -. على مصر عوضا عن المطالبة بزيادة حصتها من المياه أن تبحث عن مصادر بديلة للمياه مثل تجميع مياه الأمطار و المياه الجوفية فلا يمكن أن تظل تطالب الدول الإفريقية بأن تنظر لنهر النيل ينبع من بلادها و لا تستفيد منه، ولا يمكن أن نمنع الأفارقة من الاستفادة من النهر الذي يمُر في بلادهم أبد الدَّهر، فعلى مصر إيجاد مصادر بديلة للمياه على المدى المتوسط.
من حق مصر التمسك باتفاقية 1959م كونها الدولة الأكثر احتياجا لهذا النهر وكون أن 97% من احتياجات مصر المائية هي من النيل، ولكن ليس من حق مصر التدخل في شؤون دولة أخرى و منعها من إنشاء سدود على النهر طالما احترمت هذه الدولة اتفاقية مياه 1959م و حصة مصر المائية. لذلك فإنني أرى أن توقيع الرئيس عبدالفتاح السيسي لاتفاقية المبادئ مع رئيس السودان وإثيوبيا هو خطوة شجاعة في حل أزمة السد، ولكن ما يُفشلها هو الخطاب المعادي في الإعلام الذي يملك نظرة استعلائية تجاه الأفارقة.
الحل المناسب لمسألة سد النهضة في رأيي يكمن في:
1. أن ينحصر التفاوض في النيل الأزرق بين ثلاث دول يمُر بها النهر و هي السودان و مصر و إثيوبيا على مسألة ملء بحيرة السَّد في زمن يكون مناسبا لمصر و للسودان مثل أن تُملأ البحيرة على عشرة سنوات.
2. أن تعمل مصر و السودان و جنوب السودان على إتمام حفر قناة جونقلي و أن يتم إقناع جنوب السودان أن المساحة الغابية التي سوف تتدمر جراء جفاف المسنتقعات ستتكفَّل مصر بتحويلها لرقعة زراعية و هذا المشروع لو تم فإنه سيزيد من حصة مصر و السودان 55مليون متر مكعب.
3. أن تتخلص مصر من سدِّها العالي و تتجه إلى التوليد بالطاقة النووية فهذا السد العالي يُفقد مصر كمية كبيرة من المياه بسبب التبخُّر ولم تعد الكهرباء التي ينتجها ذات أهمية خصوصا أنه ستتقلص كمية الكهرباء التي ينتجها إلى أدنى مستوياتها مع إنشاء سد النهضة الإثيوبي.
وائل علي نصر الدين
موقع اضاءات