اختلط العملان، المسلح بالثوري، بعد الثورة الليبية، وارتفع صدى مشاركة الحركات الدارفورية المسلحة في القتال بجانب قوات اللواء خليفة حفتر. ففي وقت رأت فيه قوات الأخير مشاركتها دوراً لا يختلف عن دور المتسللين من أي دولةٍ أفريقية موبوءة بالصراعات، رآه السودان تهديداً للأمن القومي السوداني في مناطق دارفور، وتهديداً للأمن القومي الإقليمي على الحدود السودانية الليبية بشكل عام، نسبة إلى احتمال أكبر بتسرّب السلاح الليبي إلى السودان.
ومع ما يتم تداوله من بأس السلاح الليبي الذي كدّسه معمر القذافي عقوداً، وتم وصفه بأنّه ترسانةٌ لا يؤمن شرها، إن تم فتحها على دول المنطقة، تتعزّز فرضية اتهاماتٍ سابقةٍ تفيد بدعم القذافي حركات دارفور وتسليحها.
يكتنف الرأي العام الدولي، أيضاً، نوع من القلق، خصوصاً من الدول المسيّسة بصفقات السلاح الليبية. فروسيا مثلاً أعلنت عن قلقها من أن تؤثر الثورات في العالم العربي على صادرات الأسلحة الروسية إلى المنطقة، فقد ظهرت، وقتها، تقارير إخبارية مكثفة، قدّرت خسائر روسيا جرّاء حظر الأمم المتحدة تصدير السلاح إلى نظام القذافي بأربعة مليارات دولار. وتجلّى الموقف المتحفظ الذي تبنته روسيا من الأحداث الليبية، الخاص بالتدخلات الغربية، عند تحذيرها من الانحياز لطرف في الصراع الليبي دون الآخر، واصفة النزاع الليبي حرباً أهلية. وكشفت معلومات متداولة عن اتفاقية وقعتها روسيا وليبيا في إبريل/ نيسان 2008، تتنازل روسيا بمقتضاها عن ديونٍ مستحقة على ليبيا بقيمة أربعة مليارات ونصف المليار دولار، في مقابل عقود ليبية من قطاع التصنيع العسكري الروسي. هذا غير اتفاقيات كان من المتوقع توقيعها، لولا اندلاع ثورة 17 فبراير. ولم تخف وثائق المخابرات الأميركية الهدف الأساسي حول برنامج التسلح الليبي الذي كان ينفق عليه القذافي ملايين الدولارات، للتباهي والتفاخر بالقوة العسكرية في المقام الأول، قبل امتلاك قوة عسكرية رادعة.
حفز هذا التوجس الدولي والإقليمي على أخذ خطر النزاع الليبي على السودان على محمل الجد، فقد لا يكفي الإعلان عن إنشاء قواتٍ ثلاثيةٍ لضبط الحدود بين السودان وتشاد وأفريقيا الوسطى. وقد لا يكفي العزم على إحباط محاولات تهريب السلاح الليبي إلى دارفور، وخصوصاً السلاح الخفيف والسيارات رباعية الدفع المجهزة بمدافع ذاتية الحركة وبطاريات سام المضادة للطائرات. لا يكفي هذا كله لأنّ حدود السودان المفتوحة على جميع جيرانه تشكل معضلةً أمنيةً، أحدثت إشكالاتٍ كثيرة على مدى التاريخ الحديث. وذلك لأنّ طبيعة حدود السودان البرية الطويلة، متعددة المنافذ والمفتوحة على تسع دول أفريقية، أثبتت فشل السيطرة عليها والحفاظ على أمنها، لخلو أغلبها من قوات حرس الحدود.
أما لماذا يُعتبر السودان، من ناحية بوابته الغربية، المتمثلة في إقليم دارفور، مؤهلاً لأن يكون وجهةً للسلاح الليبي، أو على أقل تقدير، ممراً له، فهو لأنّ السودان بموقعه وسط منطقة نزاعات القرن الأفريقي يمثل ممراً نشطاً لأسواق السلاح في العالم. وأدت هذه النزاعات، وما نتج عنها من عنفٍ مسلح تنامى مع الزمن، إلى رغبةٍ عارمةٍ في الاستحواذ على السلاح والذخائر، بكل الوسائل، كضرورةٍ لبقاء الأقوى، سواء بتسهيل مرورها أو تصديرها إلى الجماعات المسلحة، بكل الطرق البدائية والحديثة، فقد شهدت بعثات دراسية لمسح الأسلحة الصغيرة أنّ السلاح الخفيف يتم نقله على ظهور الحمير والجمال.
ويلعب تعدد مداخل السودان على مختلف حدوده دوراً حيوياً في تسهيل مهمة اشتراك دول
“السودان بموقعه وسط منطقة نزاعات القرن الإفريقي يمثل ممراً نشطاً لأسواق السلاح” أجنبية، وسماسرة السلاح، في توريده إلى السودان. ولأن توفر السلاح يؤدي، بشكلٍ مباشر، إلى انعدام الأمن، فإنّ المراقب يمكنه الوقوف على حال أقاليم عديدة في السودان، بالإضافة إلى دارفور، تم تزويد مجموعاتٍ منها بالسلاح، ما أطال أمد الصراع الداخلي. وليست حرب الجنوب بعيدة عن الأذهان، وارتباطها بتأجيج الحرب في دارفور، لأن القبائل المتنازعة استفادت، بشكل كبير، من الفوضى الأمنية في الجنوب، واستفادت كذلك من توفر السلاح الذي تم تهريبه من الجنوب. ولم تترك الحكومة السودانية حمّى تهريب السلاح لهذه القبائل، وإنما جيّشت أنصارها عبر قوات خاصة، وهي قوات الدفاع الشعبي، وقامت بتسليحها بنشر الأسلحة الثقيلة والخفيفة، وقد أدى تدريبهم على استخدام السلاح، ودخولهم ميدان الحرب في الجنوب، إلى مواجهة القبائل بعضها بعضاً، وسهولة الحصول على السلاح وحمله، ما أحدث طلباً كبيراً على السلاح من الجماعات المتمردة، من الدول المجاورة وسماسرة السلاح لمواجهة الصراع مع الحكومة.
هذا هو التطور المتوقع للاضطراب في ليبيا، ومن قبلها اضطراب دول الجوار وإقليم دارفور نفسه. دخل السودان، بإقليمه المكلوم، مرحلةً لا ينفع فيها الحظر الموجه لنقل السلاح منه وإليه. وإن كان الحظر ذا فاعلية فيما قبل، وذلك لإرساء قوانين دولية، للحد من تدفق السلاح بصورة كبيرة، فإنّ الانتهاك لذاك الحظر، في ظل ظروف الحرب وعدم الاستقرار، تبدو أكثر شراسةً. يعدّ السلاح القادم من ليبيا نوعاً من الإمدادات التي سوف توفر بيئةً جديدةً لإشعال أوار الحرب في دارفور من جديد. فقبل أن يتبنى المجتمع الدولي الذي خرج من باب التهويل الإعلامي، كإحدى غنائم الحرب في دارفور، وقبل أن يعود من نافذة مراقبة مرور السلاح وانتقاله إلى الإقليم، على الحكومة السودانية أن تعزّز من شفافيتها، بالتحقيق في انتقال الأسلحة وحيازتها، وفرض القانون على الكل من دون استثناء.