وضع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين النقاط على الحروف في 3 قضايا ساخنة ليفضح أطرافا محددة في الغرب.
الطلقة الأولى.. وجهها بوتين نحو تركيا. وهي ليست طلقة تحذير أو إنذار أو عنف، وإنما دعوة جديدة للعقلانية وحسن الجوار والحفاظ على ما وصلت إليه العلاقات الاقتصادية والإنسانية بين البلدين الجارين.
الرئيس الروسي يعول على التغييرات التي جرت على تركيبة الحكومة الجديدة في أنقرة، وظهور رئيس الوزراء الجديد بن علي يلديرم على الساحة السياسية. ومن الواضح أن قيام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بإبعاد أحمد داود أغلو من المشهد السياسي، يهدف لأشياء كثيرة، على رأسها التعامل مع ملفات كثيرة معقدة وعالقة، يمكن أن تسبب الكثير من المشاكل والأزمات لتركيا التي تشوهت صورتها خلال الفترة الماضية بنتيجة سياسات نخبتها وإصرار حزب “الحرية والعدالة” على ممارسة سياسات طائفية وتمييزية في الداخل والخارج. هذا طبعا إذا ابتعدنا قليلا عن الصراع بين أردوغان وداود أوغلو، وتناقض وجهات النظر بينهما.
الرئيس الروسي أعلن أن روسيا “تود استئناف العلاقات مع تركيا وتنتظر خطوات محددة من قبل أنقرة في هذا الاتجاه، لكن أنقرة لم تقدم بعد على هكذا خطوات”. وأوضح أن “روسيا لا تحارب في سوريا جيوشا نظامية بل تقاتل مجموعات إرهابية.. لم يخطر ببالنا أن مقاتلة تركية يمكن أن تضرب قاذفتنا المكشوفة بالنسبة للمقاتلة. لم نكن نريد محاربة تركيا وإلا لكنا تصرفنا بشكل آخر ووسائل أخرى. آمل ألا تصل بنا الأمور إلى هذا الحد أبدا”.
بوتين يقدم مساحة جديدة عقلانية وبرغماتية لحوار بين دولتين كبيرتين لديهما طاقات وقدرات يمكنها أن تغير الوضع في المنطقة لصالح الجميع. وهو في الوقت نفسه، يهمس لأردوغان، بأن من يلعبون على التناقضات بين موسكو وأنقرة يعرفون جيدا “الانفعال التركي” و”المكابرة”. ولذلك راهنوا على إفساد العلاقة بين موسكو وأنقرة إلى النهاية.
في هذا الصدد تحديدا لا تزال الأسئلة مفتوحة بالنسبة لجريمة إسقاط القاذفة الروسية وقتل أحد قائديها، وبدلا من “التصلب” و”عدم الاعتراف بالخطأ” وتحمل المسؤولية، فعلى أردوغان أن يفكر في هدوء، ويصل إلى التناقضات المحيطة به، وفي نظامه السياسي، وربما عليه أيضا أن يلتفت لكل محاولات الوقيعة بين أنقرة وموسكو، وأن يتوقف قليلا عن مغامراته في أوكرانيا والقرم، وعن التصريحات المجانية. فالدول الكبرى لا يليق بها مثل هذه المغامرات والتعليقات الساذجة. وبالتالي، لن يخسر إردوغان شيئا إذا دقق النظر حوله في الداخل والخارج ووضع يده على المصالح الحقيقية لبلاده، وتحسين علاقاتها بجيرانها الكبار.
كان من المتوقع أن تنفعل روسيا وترد ردا عسكريا على إسقاط تركيا القاذفة الروسية. وذهب الكثير من التحليلات إلى إشعال الموقف، وإلى توقعات سوداوية ومتشائمة. ولكن كل ذلك لم يحدث، لأن موسكو تعاملت بعقلانية وبرغماتية وحكمة مع هذه المسألة المعقدة. وأدركت أن هناك أطرافا عديدة تعرف جيدا التركيبة النفسية والذهنية لأردوغان وانفعالاته من جهة، وتراهن على أزمات أردوغان الداخلية التي تدفعه لمناورات سياسية و”إعلانية” للحفاظ على سلطته، وعلى وجود حزبه الإسلامي المحافظ في المشهد السياسي.
الرئيس الروسي همس مجددا لأردوغان بأن “السلطات التركية قدمت إيضاحات دون أن تقدم اعتذارا ولم تعبر عن استعدادها للتعويض.. نسمع تصريحات حول الرغبة في استئناف العلاقات… نحن أيضا نود استئناف العلاقات، لكن ليس نحن من قوضها. نحن قمنا بكل ما بوسعنا طوال عقود لنقل العلاقات الروسية التركية إلى مستوى غير مسبوق للشراكة والصداقة. صداقة الشعبين الروسي والتركي وصلت بالفعل إلى مستوى عال”.
الكرة الآن في ملعب أردوغان ورئيس حكومته الجديد، بعيدا عن التصريحات المجانية والمناورات الكلامية. ومن يراهن على اندفاع أردوغان وتصلبه، هو نفسه الذي يدفع بتركيا إلى مواجهات وهمية بدلا من العمل الجاد والبرغماتي لصالح علاقات أنقرة مع موسكو. أما مشاكل أردوغان الداخلية، فعليه أن يتصرف فيها كما يشاء، ولا يستخدم أوراقا أخرى تضر به وببلاده وبمصالح شعبه.
الطلقة الثانية.. أطلقها بوتين في اتجاه السياسات الغربية الأوروأطلسية التي تتعامل بنفاق وانتهازية ومعايير مزدوجة. وقال إن “روسيا لن تجري أي مباحثات مع أحد حول إعادة القرم لأوكرانيا.. القضية منتهية. وهذا قرار تاريخي لسكان القرم”. هنا تنتهي الفكرة مرة واحدة وإلى الأبد، بعيدا عن المماحكات السياسية، و”الخلط بين اللحم والذباب”، كما يقول المثل الروسي. وعلى الغرب أن يبحث عن أوراق جديدة لعلها تنقذه من أزماته الأمنية والاقتصادية التي يحاول حلها على حساب الآخرين، وفي المقام الأول على حساب المواطن الأوروبي الذي يطالبه الناتو والبنتاغون بزيادة نفقات الدفاع ضد أعداء وهميين.
القرم روسية أصلا. وسكانها أجروا استفتاء على عودتها إلى روسيا بعد أن راحت إلى أوكرانيا وفق تقسيمات إدارية في دولة واحدة اسمها الاتحاد السوفيتي، كانت موجودة حتى عام 1991. وعلى أوكرانيا أن تحل مشاكلها الداخلية بدون اختراع أعداء، وبدون اللعب على التناقضات. وعلى الولايات المتحدة وحلف الناتو أن يحلا أزماتهما بعيدا عن تدمير استراتيجيات الأمن الأوروبي، واستعباد المواطن الأوروبي الذي يريد أن يعيش في بحبوحة وازدهار وكفاية.
هذه هي رسالة روسيا – بوتين ليس فقط إلى الناتو وواشنطن وكييف، بل إلى المواطن الأوروبي والأوكراني لكي يعي تماما أن عدوه ليس روسيا، وإنما من يحرضه على العسكرة، ويواصل تبديد اقتصادته والإمعان في إفقاره والاستيلاء على منجزاته وإعادته إلى ثلاثينيات القرن العشرين.
الطلقة الثالثة.. أطلقها الرئيس الروسي في اتجاه الدرع الصاروخية، التي وإن كانت إلى الآن موجهة ضد روسيا بأشكال وحجج مختلفة، فهي أيضا موجهة إلى الدول التي تفتح أراضيها لنشر عناصر وأجزاء من هذه الدرع، وموجهة أيضا إلى صدور مواطنيها.
من الواضح أن الولايات المتحدة وحلف الناتو الذي تقوده واشنطن يسعيان بكل الطرق الممكنة لعسكرة أوروبا وتغيير خريطتها الأمنية والجيوسياسية. وهذا الأمر ليس بعيدا عن منهج الرأسمالية الجديدة التي تسعى بكل الطرق والأساليب لفتح مجالات جديدة أمام القيمة الفائضة التي تحصلها من دماء شعوبها والشعوب الأخرى. وبالتالي، فالغرب الآن بحاجة إلى مشاريع عسكرية واسعة النطاق الجغرافي في المقام الأول.
موسكو لا تزال تتعامل بحكمة وحذر مع كل المقدمات الأطلسية لعسكرة أوروبا ووضع خطوط فاصلة جديدة فيها. وهذا ليس عن ضعف، وإنما هو حصيلة الخبرات التاريخية المريرة التي فقد فيها العالم 50 مليون نسمة، من بينهم 25 مليون من شعوب الاتحاد السوفيتي. ولكن يبدو أن الرأسماليين الغربيين مصممون على إنقاذ الرأسمالية بنشر الفوضى في كل المساحات الجغرافية الممكنة في العالم. والآن جاء دور أوروبا نفسها.
روسيا لا تحذر الولايات المتحدة وحلف الناتو فقط، بل تنبه الدول التي تضر بشعوبها وتفتح أراضيها لنشر عناصر الدرع الصاروخية. والغريب أن هذه الدول بالذات هي التي عانت ويلات الحرب العالمية الثانية أكثر من الولايات المتحدة نفسها. وبالتالي، قال بوتين إن “روسيا ستضطر للرد على نشر الدرع الصاروخية في رومانيا”. ونبَّه إلى أن “الولايات المتحدة خرجت بصورة منفردة من اتفاق الدفاع الصاروخي، وبدأت بذلك في تقويض أسس الأمن الدولي”. بل ويرفض الناتو وواشنطن التوقيع على أي اتفاقيات بشأن عدم توجيه هذه الدرع إلى روسيا. ويكتفيان بأن هذه الدرع مجرد أداة “دفاعية”. الأمر الذي يثير الدهشة والسخرية، لأن “منظومة الصواريخ المضادة في رومانيا يمكن تحويلها إلى منظومة هجومية بمجرد تغيير البرمجيات”. والعناصر التي نشرت في رومانيا، لا تختلف كثيرا عن العناصر التي ستنشر في بولندا بحلول عام 2018 كما أعلن حلف الناتو والولايات المتحدة. وبالتالي، فموسكو لا تستبعد أيضا أن تكون أراضي هذه الدول في مرمى المنظومات الصاروخية الروسية.
RT