فجر راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة التونسية في مؤتمرها العاشر العام، جدلا فكريا وسياسيا خاصة بين أوساط ما يعرف بالإسلام السياسي. والإسلام السياسي تعبير مستحدث سنستخدمه بشكل اضطراري لنقاش حالة فكرية وسياسية تفرض نفسها اليوم، مثلما فرضت نفسها في أزمان مضت، الشيوعية والقومية العربية فتلكم حالات سادت ثم بادت.
الغنوشي الذي يبدو أنه قد أجاد تقمص تلك الميزة الدفاعية التي تجيدها وتنفرد بها بها الحرباء؛ أعلن فصل السياسي عن الدعوي وهو ما عدّه البعض تطورا نوعيا أو تطورا فكريا متخطيا حدود المراجعة الفكرية.. فهل يعد ذلك استجابة ضرورية وملحة لمرحلة جديدة باعتبار حركة النهضة جزء أصيل من النظام السياسي للدولة التونسية وجهازها التنفيذي؟.. المؤيدون لخطوة الغنوشي لم يروا فيها ردة بل اعتبروها تجديديا سياسيا شاملا لفكر الحركة ومقاصدها الإسلامية. فالرجل عندهم حقق في منعطفات كبيرة وحسّاسة مخرج نجاح كبير ومتطور، وحافظ على وطنه وسلمه الأهلي لكل المواطنين.
لا شك أن السياسي عندما يكون تنفيذيا يقف على مسافة واحدة من كل مواطني الدولة.. لأن الديمقراطية تعني حيادية مؤسسات الدولة تجاه المجتمع.. فالقضاء والشرطة والجيش والأمن والجامعة والمدرسة مؤسسات لخدمة كل المجتمع، وقانونها لا يسمح باستغلالها في المعارك السياسية.
في المقابل يرى معارضو خطوة الغنوشي أن التخلي عن المرجعية الإسلامية وإن كان ظاهريا، يشبه ظاهرة الأحزاب الشيوعية في مرحلة أفولها حيث غيرت هي الأخرى أسماءها وتنكرت لمشروع دكتاتورية البروليتاريا وأدعت ديمقراطية زائفة أو اشتراكية باهتة. وتتهم الأحزاب والحركات الإسلامية بالبحث عن موقع في السلطة ولو بثمن التماهي مع الأعداء التقليديين في الغرب العلماني بل في بعض الأحيان التماهي مع رأس المال الفاسد. خلاصة الأمر أن أولئك يرون أن المنطقة بصدد معايشة انحسار الحركات الإسلامية بعد أن عايشت انحسار الشيوعية والقومية العربية.
وعودا لمصطلح أو تعبير “الإسلام السياسي”، فالغرب – وهو مصدر هذا التوصيف – ما انفك يشغل الناس بمسميات وتصنيفات ،على هذه الشاكلة في حين أنه لا يقبل الإسلام جملة وتفصيلاً، واستخدمه لتوصيف حركات تغيير سياسية تؤمن بالإسلام باعتباره “نظاما سياسيا للحكم” فالإسلام عند تلك الحركات ليس ديانة فقط وإنما هو عبارة عن نظام سياسي واجتماعي وقانوني واقتصادي يصلح لبناء مؤسسات الدولة.
ويطلق الغرب هذا المصطلح مصحوباً بوصف تلك الحركات بمجموعة “المسلمين الأصوليين” ولاحقاً بالإرهابيين خاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001.. في ذات الوقت لا يضع الإسلام في ضفة واحدة، فهو غير راغب في مواجهة شاملة، فضلا عن أن أسلوب (فرق تسد) ظل حاضراً.. حتى الإسلام السياسي عنده يتضمن تصنيفات معينة؛ فدول مثل إيران والسودان ونظام طالبان السابق في أفغانستان وحركة حماس في قطاع غزة لا يمكن مقارنتها بالمملكة العربية السعودية وباكستان اللتان ترفعان شعار الإسلام وهما في نفس الوقت حليفتان للولايات المتحدة الأمريكية والغرب عموماً.
الغرب الذي يؤمن بالعلمانية نظام حياة شامل يريد نظماً سياسية في الدول الإسلامية تتماهى مع ما يؤمن، وهذا ما يصطدم تماماً مع رؤية الإسلام السياسي ولذا يشيع عبر آلته الإعلامية الضخمة أن حركات الإسلام السياسي تسعى إلى الوصول إلى الحكم والاستفراد به، وبناء دولة دينية ثيوقراطية وتطبيق الشريعة الإسلامية التي لا تصلح في رأيه للعصر الحالي.. ويجد الغرب في التيارات الليبرالية أو الحركات العلمانية ضالته حيث تلقى فكرة تطبيق الشريعة الإسلامية في السياسة عدم قبول لديها، فهي تؤمن بالرؤية الغربية وتريد بناء دول علمانية، وأن تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية شأن خاص بالفرد المواطن ولا شأن للدولة فيه.
لكن المتابع لمسار الإسلام السياسي بالمفهوم المتطرف لدى الغرب، يلحظ أنه تحول إلى قوة سياسية معارضة في بعض البلدان، بل نجح في الوصول للحكم في بعض الدول مثل مصر وتونس والمغرب وحركة حماس في فلسطين، وقبل ذلك في الجزائر والسودان.. ولم يستطع الغرب إخفاء ارتياحه لمآلات الوضع في مصر حيث تضافرت قوى داخلية وخارجية مناهضة للإسلام السياسي في تداعياته.
الرغبة الجامحة لدى التيارات العلمانية واليسارية لإزاحة الإسلاميين جعلتهم يتغاضون عن الأسلوب الديكتاتوري لقيادة الجيش المصري والإجراءات القمعية التي صاحبة عزل الرئيس محمد مرسي وهو المنتخب ديمقراطياً، ولعل ذلك تبدّى بصورة سافرة في قتل الجيش بأوامر عليا، أكثر من (50) شخصا من مؤيدي مرسي وهم يؤدون صلاة الفجر أمام نادي الحرس الجمهوري، فضلا عن مئات الجرحى.. الغربيون كانوا قد استنكروا رش المخربين في تركيا بخراطيم المياه والمسيل للدموع وصمتوا على رش المتظاهرين المصريين بالرصاص.