الإيمان بالغيب هو صفة إنسانية سواء أقر الإنسان بها أم انكرها . فطبيعة المعرفة الإنسانية أنها تأسس على المغيب مثلما تأسس على المشهود. وصفة الإحاطة المعرفية مهما تطلع لها الإنسان أو إدعاها فإنها لا تتحقق له ولا لغيره من الناس بل ولا لسائر المخلوقات . فالله وحده هو صاحب العلم المحيط الذى لا تخفى عليه خافية فى الارض ولا فى السماء. ولاينظر لبعض شىء فى زمان ويغفل عن بعض شىء ، فهو البصير تمام البصر وكماله. ولا يسمع لبعض شىء فى زمان ويخفى عنه بعض آخرفى زمان ، فهو السميع تمام السمع وكماله. وأما الانسان فلايرى من كل شى الا الجانب الذى يواجه بصره ثم يستكمل صورة ماغاب عنه بالتذكر أو بالسماع من آخرين . والإنسان لايسمع الا أصوات البيئة السمعية التى هو فيها ولايسمع بعض هذه الا اذا أخفتت الأصوات العالية الاصوات المنخفضة , ولا يسمع الا أذا أنصت ، والأنصات هى عملية إنتقاء من أصوات البيئة ما تريد أن تركز عليه الانتباه لتسمعه . وكثيرمن الأصوات الحاضرة غير مسموعة لأنها فى واقع الأمر لا يتسع لها وعاء السمع فى لحظة زمان واحدة , ولايدركها الانسان الا بالتذكر أو من السماع من آخرين.
أخبار الغيب والشهود:
فإذا أدركنا ان الانسان عاجز حتى عن إدراك المشهود إدراكاً محيطا به من كل جانب فى لحظة زمان واحدة ، فكيف بالمغيب تماما عن حواسه . لا سبيل لادراك ذلك المغيب الا بالإيمان أن بعض حقائق الوجود خارج دائرة المحسوس . وأن لا سبيل لإدراكها الا بالتأمل فى أنساق الكون والحياة وسننها . ولاسبيل لهداية مسعى العقل فى إدراك الوجود إلا من خبر من جهة أعلى لها القدرة على الإحاطة بكل سكنة وحركة وكل موجود مشهود وموجود غير مشهود . والإيمان بالغيب هو جوهر الإيمان . فمعرفة الله سبحانه وتعالى غيب ومعرفة مخلوقاته فى ملكوته من ملائكة وجان وغيرهم غيب . والايمان بكتاب الله المسطور قبل خلق الانسان غيب . والايمان برسله من الملائكة لانبيائه غيب ، وكل غيب لاتُنال معرفته الا بالإخبار ولا يحصل تصديق أخبار الغيب إلا بإعمال العقل فى التأمل فى أيات الكتاب وأيات الأنفس والأفاق . والإيمان بالغيب هو جوهر العقيدة وأول ذلك الايمان بالله كما يتوجب علينا أن نؤمن به .وهو إيمان ربوبية يدرك أن الله هوالموجد والخالق والحافظ والرازق وهو المعطى والمانع وهو الكافى والشافى ،أى أنه لا وجود للإنسان ولا لإستمرار حياته وأسباب بقائه الا بأمر أو إذن مستدام من الله رب العالمين . وهوأيضاً إيمان ألوهية يرى الأشياء فيعرف أن الذى يحققها كما ينبغى أن تكون هو الله الحق الواحد الفرد الصمد ، فالله هو الحق وفعله هو الحقيقة . وهو يدرك أنه لا يتعدى خير لمخلوق إلا بأمر الله ، فالخير كله منه وإليه . وهو يدرك أن مقوم الاشياء والمخلوقات فى أحسن تقويم هو الله ولا أحد سواه . فالإتقان والإحسان والجمال منه وإليه . وهو توحيد أسماء هى علامات وأوسام وآيات دالة على هذه الحقائق . وهو إيمان صفات هى وصف لافعال الخالق سبحانه وتعالى فى إبداع كل شىء. والإيمان بالله إيماناً يفرده بالقدرة والعلم والإرادة هو التوحيد الذى هو العقد الناظم لكل معرفة وكل حركة وسكنة. واذا آمن الإنسان بالله هذا الايمان فلن يساوره شك فى وجود كتبه ورسله , وانه خلق الخلق وأرسل رسله لهدايتهم فى الدنيا والآخرة رحمة بهم وإسعادا لهم فى الدارين . وأن أفعاله التى هى أقداره كلها خير سواء أن رآها الانسان خيرا فيما يبدو له أو رآها شراً فيما يبدو له . وأن الله خلق الخلق وكما خلقهم سيميتهم . وكما أماتهم سوف يبعثهم مرة أخرى ، فأما إلى ثواب وإما إلى عقاب. هذه هى العقيدة الحقة فى شمولها وفى بساطتها . وهكذا كان يشرحها الدكتور الترابى. ولكنه يعلم كما يعلم سائر العلماء أن للعقيدة أصول وفروع . فأصول الاعتقاد واضحة بينة فى القرآن الكريم كما ينبغى لها أن تكون . وهى فى متناول عقل المتأمل الفليسوف بمثل ما هى فى متناول راعى الأغنام البسيط فى الصحراء. وفروع العقيدة هى أخبار تفصيلية عن أنباء الغيب أوضحها الرسول صلى الله عليه وسلم وفصلها لأصحابه ونقلها أصحابه من بعده إلى من يلونهم.
ورويت فى أحاديث بعضها أتصل سنده وقوى فتبدد ضباب الشك من حوله فتلقاه أهل العلم وعامة الناس بالتصديق والقبول . وبعضها إعتراه الشك من وهن فى إتصاله وإسناده وأختلط بمرويات أهل الكتاب التى أمرنا أن لا نصدقها ولا نكذبها فأصيح الناس فى حل من أمر المجادلة فيها , وقد أشرنا سابقا الى منهج الدكتور الترابى فى قبول حديث الآحاد أو التحفظ على إعماله إذا خالف صريح القرآن أو صريح المعمول به باستمرار وإستقرار من سواد أمة المؤمنين ، أوما خالف صريح المعقول والمعلوم علما لا يتطرق إليه الشك بوسائل ومناهج العلم الثابتة .
ولئن أعمل الترابى هذا المنهج فى الأفعال والأحكام فقد أعمله إيضا فى النظر إلى أحاديث الآحاد التى تتطرق إلى فروع الإعتقاد والنبؤات التى لا يُتصور ، أن يُتوصل إليها إلا بعلم من الله عن طريق الوحى . وإعمال الدكتور الترابى لهذا المنهج فى الأخبار المتعلقة بالغيبيات والنبؤات مثل عذاب القبر أو مبعث المسيخ الدجال وقيامة المسيح عليه السلام وغيرها من الأخبار، ساق إليه جدلاً وأذى كثيرا ، لما تحدث بغير المسموع للعامة المعهود لديهم من هذه الأخبار التى وردت فى أحاديث آحاد متفاوتة فى ما ينسب لها من قوة إسناد أو إتساق وتعضيد من ظاهر القرآن أو لأحاديث أخرى فى ذات الباب . ومنهج الدكتور الترابى فى التفسير التوحيدى رجح لديه فهما لكثير من هذه الأخبار ليس هو الفهم الدارج بين العامة . وربما أيضا لدى جمهور أهل العلم والمنتسبين إليهم. وقد علم أهل العلم أن فروع العقيدة ما لم ترد فى القرآن الذى هو قطعى النسبة إلى الله سبحانه وتعالى وقطعى الدلالة فهى مفيدة للظن الراجح وليس مفيدة للعلم والتصديق الذى يُكفر من أنكره . ذلك أن الأخبار ليست مثل الاحكام يمكن ترجيحها بغلبة الظن وإجتماع الراى . لأنها موضوعات تصديق وكل أمر تصديق هو أمر إيمان فردى بطبيعته . فالإيمان لا يتنزل على الناس بالجملة فلا تقام الحجة على أحد بإيمان الآخرين ، وأنما تقام الحجة بالبينة والبرهان . فاذا كان هناك ما يسوغ أن يحوك الشك فى الصدر تجاه خبر من الأخبار أو نبؤة من النبؤات لعلة فى سند الخبر أو علة فيما يفيد به متنه من عدم إتساق مع ما يمكن أن يفهم من القرآن أو معارضة لسنة أعلى رتبة أو من صريح العقل أو العلم فلا مشاحة من تعبير بغير المشهور من القول لتحصل المناقشة والمفاكرة والمثاقفة فتطمئن القلوب إلى صحة الخبر أو يستمر البحث فى ذلك حتى يحصل اليقين .
حديث الجنتين والحور العين:
فهم الدكتور الترابى للأخبار التى ترد بها الأحاديث عن الجنة أنها كلها ترغيب وانها على سبيل التقريب . لأن حقائق الآخرة وإن كانت مشابهة لحقائق الدنيا فأنها غير مطابقة لها . وأن مايرد من أخبار فى ذلك السياق فهى أشبه بالكناية عن حقائق أخروية يتعسر أن تحيط بها خواطر البشر. وأما الجنتان فهما جنة للإنس وأخرى للجن ودونها جنتان أدنى من ذلك واحدة للإنس وأخرى للجن . ثم أنه يقيس كل أخبار السنة على ماورد بالقرآن فى شأن الجنة والنار.وهو يحب أن يزيح عن هذه الأخبار ما اختلقته أخيلة القصاص أو روجته حكايات أهل الكتاب من أخبار لاتوافق المفهوم الظاهر من سياق القران. فتصوير الجنة وكأنها كسل وخمول وطعام وشراب ولذات وصال ونكاح صورة يناهضها الدكتور الترابى. فحياة الناس السعداء من أهل الجنة ليست شراب وطعام ونكاح لسبعين من الحور العين أو يزيد ,وإنما هى فوق ذلك وأعلى من ذلك كدح الى الله بطلب المعرفة به ومعرفة أكوانه ومعانى الحياة والوجود طلباً لا ينتهى عند حد ولا يكتمل بتحصيل معيار منه أو مقدار . وتلك هى الحياة الحقيقية وهى كذلك الحياة الحقيقية فى الدنيا مثلما هى الحياة الحقيقية فى الأخرة . هى حياة المعانى والقيم وهى لا تحقق الا بتكشف علوم الغيب تدرجاً كسباً وموهبة من الله رب العالمين لعباده المتقربين إليه بذكر أسمائه وصفاته وذكر نعمه وآلائه . وبتدبرهم فى أقواله وأفعاله ومفعولاته . فهى العلامات والآيات الهادية إليه وحقائقها هى التى تملأ النفس بالحسن والجمال وتزينها بكريم الصفات والخصال.
وأما الحور العين واللائى يشار إليهن وكأنهن وسائل إمتاع للرجال ما هن عند الترابى إلا نساء الدنيا المؤمنات الصالحات اللاتى سوف ينشئهن الله إنشاء جديداً فيجعلهن عربا أترابا . ليكن رفقة لأصحاب اليمين ويكون أصحاب اليمين لهن رفقة , وبعض هؤلاء هم أزواجهن فى الدنيا إن كتب الله لهم وذريتهم إجتماعا فى الجنة . واًالترابى لا يستبعد أن يخلق الله خلقاً جديداً فى الجنة من الناس. سواءً كن أناثاً يكن حورا عيناً او رجالاً يكونون خير أزواج للمؤمنات الصالحات من أهل الجنة . لكن الذى يعنيه أكثر أن يفهم أهل الإيمان أن النساء شقائق الرجال فى الجنة كما هن شقائق الرجال فى الدنيا . وهن يتمتعن بكل ما يتمتع به الرجال فى الجنة من شراب وطعام ونكاح . ولئن ورد فى حديث المعراج أن غالب أهل النار من النساء فإن الترابى يقول أن الحديث إنما ورد فى سياق الوعظ والترهيب ,لكن تمام حقيقته التى يغفل عنها أهل التمييز ضد المرأة والتحيز إلى الذكور أن غالب أهل الجنة من النساء أيضاً . فلئن كانوا يتحدثون عن سبعين حورية لكل رجل فكيف يجعل ذلك عدد النساء فى الجنة ؟ ولا يعلم أحد من البشر كم من نساء أهل الارض يدخلن الجنة ، فينشأهن الله النشأة الآخرة . وكم من الحور العين يُخلقن فيها خلقاً جديداً. وتمام هذه الحقيقة أن غالب أهل الدنيا على أختلاف العصور هن من النساء . فقد شاءت حكمة الله ورحمته أن يكون ذلك كذلك حتى تستمر الحياة ، فنقص النساء أو نقص خصوبتهن ينقص تكاثرالناس على الارض ونقص الرجال أو نقص خصوبة الرجال ليس له ذات الأثر على تكاثر الناس فى هذه الحياة الدنيا فإذا صح أن النساء فى الدنيا أكثر من الرجال فلا عجب أن يكن أكثر أهل النار وأكثر أهل الجنة .
عذاب القبر وحياة البرذخ :
حديث الدكتور الترابى عن إنتفاء العذاب الحسى فى القبر والذى أثار غضباً ولغطاً وذهب بعض أهل التشدد إلى تكفيره بسببه يقتضينا وقفة لتبينه ,نوضح أولاً أن غالب أهل العلم يعلمون أنه لايُكفر أحد بالمجادلة فى أخبار وردت بآحاديث الآحاد فى أمور الغيب الفرعية . لأنها مهما صحت لدى من يصححها فإنها لا تفيد اليقين . إما لأن إسنادها لايقطع الظن تماما لانها ليست من المتواتر أو المشهور ، أو لأن متنها ليس من باب النص الذى لايحتمل تعدد التأويلات. وأما تحفظ الترابى على تلكم النصوص فلأنه يرجح على إفادتها العلم الثابت والمعلوم لديه والمفهوم من ظاهر القرآن .وظاهر القرآن عنده لا يعضد فكرة العذاب الحسى فى القبر . فالإنسان عندما يصير إلى قبره يحيا حياة الروح لا حياة الجسد . فهو ميت فاقد للإحساس ، وقد يرم جسده فييصيح رميماً فلا يُتصور أن يبقى منه جلد يحس ليعذب عذاباً حسياً . و لئن كان أهل النار تبدل جلودهم ليذوقوا العذاب فلم يتحدث أحد أن أهل القبور تبدل جلودهم أو تبدل حواسهم ليذوقوا العذاب الحسى فى قبورهم. وقد فشا فى العالم مؤخرا حرق الرفات فهل هذه طريقة للنجاة من عذاب القبر وكيف يكون عذاب فى قبر ولاقبر ولا مقبور . والترابى يؤول الآية فى عذاب آل فرعون )النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ*)). سورة غافر آية رقم : (46 ) بأن ما يعرض على النار هى أرواح آل فرعون . وقوله يوافق قول القرطبى الذى رجح العذاب المعنوى إذ يقول: (الجمهور على أن هذا العرض يكون في البرزخ، وهو حجة في تثبيت عذاب القبر) وكذلك تفسير الالإمام الطبرى للآية يؤكد أنه عذاب أرواح لا عذاب أجساد يقول ( القول فى تأويل قوله تعالى «النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ»، يقول تعالى ذكره مبيناً عن سوء العذاب الذى حل بهؤلاء الأشقياء من قوم فرعون، ذلك الذى حاق بهم من سوء عذاب الله النار يعرضون عليها أنهم لما هلكوا وأغرقهم الله جعلت أرواحهم فى أجواف طير سود فهى تعرض على النار كل يوم مرتين غدواً وعشياً إلى أن تقوم الساعة، وذكر من قال ذلك حدثنا محمد بن بشار قال ثنا عبدالرحمن قال ثنا سفيان عن أبى قيس عن الهذيل بن شرحبيل قال: أرواح آل فرعون فى أجواف طير سود تغدو وتروح على النار، وذلك عرضها.) حدثنا محمد قال ثنا أحمد قال ثنا أسباط عن السدى قال: بلغنى أن أرواح قوم فرعون فى أجواف طير سود تعرض على النار غدواً وعشياً حتى تقوم الساعة. قد صحت أحاديث عن عذاب فى القبر منها ما رواه البخاري في كتاب الجنائز “باب الجريدة على القبر”. عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: مَرّ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى قَبْرَيْنِ يُعَذَّبَانِ. فَقَالَ: أَمَا إِنّهُمَا لَيُعَذّبَانِ، وَمَا يُعَذّبَانِ فِي كَبِيرٍ، أَمّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لاَ يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ، وَأَمَّا الآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنّمِيمَةِ، ثُمّ أَخَذَ جَرِيدَةً رَطْبَةً فَشَقّهَا نِصْفَيْنِ، ثُمّ غَرَزَ فِي كُلّ قَبْرٍ وَاحِدَةٍ. فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ لِمَ صَنَعْتَ هَذَا؟ فَقَالَ: لَعَلّهُ يُخَفّفَ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا أى تيبس الجريدتان. ومنها ما رواه البخاري في صحيحه في كتاب الأذان “باب الدعاء قبل السلام”، عن عائشة رضي الله عنها، زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كَانَ يَدْعُو في صَلاَتِهِ: “اللّهُمّ إنّي أعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ… الحديث. وأما حديث (القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر الناس ) فحديث ضعيف قال عنه الترمذى هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ) ومن الاحاديث الصحيحة ما يروى عن أبى هريرة قال: كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يدعو «اللهم إنى أعوذ بك من عذاب القبر ومن عذاب النار ومن فتنة المسيح الدجال» (رواه البخارى ومسلم) فنلاحظ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عطف فى دعائه عذاب النار على عذاب القبر والعطف يقتضى المغايرة، بمعنى أن عذاب القبر غير عذاب النار فى الآخرة. وعن ابن عباس أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن، يقول: قولوا «اللهم إنا نعوذ بك من عذاب جهنم ونعوذ بك من عذاب القبر ونعوذ بك من فتنة المسيح الدجال ونعوذ بك من فتنة المحيا والممات» (رواه مسلم)وكلها لا تفيد عذاباً حسياً فى القبر . والترابى لايُنكر عذاب غير حسى أو ينكرحياة الارواح فى البرذخ فهى ثابتة بنص القرآن . وأرواح الشهداء فى حواصل طير خضر فى الجنة ، والقرآن يحكى عن تخاطبهم وأستبشارهم بمن هم خلفهم ألا خوف عليهم ولا خوف يحزنون . وأرواح الكفار تتعذب بآلام النفس والروح وعذاب القلق والخوف فى إنتظار المصير المظلم الذى تبشر به فى حياة البرذخ .
ونزعة الترابى التى تخاصم الخرافة والاسطورة فى الأخبار المتعلقة بمصائر الخلق ومخالفة تلكم الخرافات للمعلوم من ظاهر القرآن أو الثابت من حقائق العلم هى التى أجاءته الى ركوب هذا المركب الصعب ،الذى لا شك أنه كان يتوقع أن يثير عليه ثائرة خلق كثير، خاصة وأن تناقل الأقوال لا يجرى مع التدقيق والتحرى فى منطوقها ومقصودها . وإلا فان الحديث حديثه لم يكن حول نفى مطلق العذاب وإنما نفى العذاب الحسى الذى يراه الترابى لا يتوافق من المعلوم الثابت من حقائق العلم . وحديثه عن عذاب القبر شبيه بأحاديثه عن قيامة المسيح التى يقول فيها أن نص القرآن يفيد بوفاة عيسى عليه السلام وفكرة القيامة هى من كلام أهل الكتاب الذى ليس له شاهد من إفادات القرآن . وكذلك حديثه عن المهدى المنتظر الذى ينتظره الشيعة وبعض أهل السنة ، والذى يرى فكرته نوعا من الالتفاف حول فكرة ختم النبؤة . وذلك بالحديث عن معصوم ملهم يملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت جورا ً وكأن إستعادة العدل والإنصاف لا تنال إلا بمبعث شبه رسول يطلقون عليه أسم المهدى المنتظر . ومنهج الترابى الذى قد يشتط فيه أحيانا هو منهج التمسك بصريح الحقائق العلمية وترجيحها على أحاديث أحآد لا تفيد اليقين لديه فى أمور الأخبار والنبؤات . وبعض تلكم الاحاديث أقل من ذلك رتبة وأغمض معنى .وهو فى ذلك لم يأت بما يأت به الأولون . ففئام كثير من أهل العلم توقفوا عند بعض الاحاديث لغرابتها بمخالفتها لدليل قرآنى أو سنى أعلى رتبة ، أو لانها خالفت صريح المعقول فعلقوها للتأكد من سندها ومتنها . وبعض تلك المعلقات ربما تُعلق إلى يوم القيامة ما لم يُرفع التعارض بينها وبين أدلة النقل الصحيح أو العقل الصريح . ولربما يجوز لمن يأبى رأى الترابى حول هذه المسائل أن يخطئه ،أما أن ينُكر عليه أن يتحدث بما يراه صحيحا بما ترجح له من أدلة النقل والعقل فليس له ذلك . ولكن كثيرا من الناس لا يحبون ولا يصدقون من الخبر أو العلم الا معتادهم وأقدار أهل التجديد مثل أقدار الأنبياء وهى أن يروا غرباء حتى يأنس الناس لما يقولون ولو بعد حين .
نواصل
د. أمين حسن عمر