سارة شحاتة وسحر خاص للكمان !

{} أكثر ما يشدني في بلادي هو إبداع المرأة فيها الذي ظل لوقت طويل مغموراً بسبب تسلط المجتمع الذكوري وكأنما العطاء الإنساني في جانب الفنون هو حكر على الرجل دون غيره من النصف الآخر.
وظلت المرأة، إلا فيما ندر وعبر نماذج تعد على أصابع اليد الواحدة، بعيدة عن ساحات الإبداع والفنون وهي في الحقيقة تصنع الفن والجمال وتلهمه كذلك.
{} وحديثاً بدأت المرأة تخطو بثبات في هذا المجال وظهر إبداعها عبر تجارب ثرة في شتى ضروب الفن؛ فقد وردت المرأة مجال الغناء ومجال التشكيل ومجال المسرح والتصوير والإخراج فوضعت بمقدرات عالية بصمات حقيقية أكدت أنها تقف نداً للرجل في هذه الساحات وتتفوق عليه كذلك كلما أتيحت لها الفرصة للتدريب وصقل الموهبة؛ لأن المرأة معروف عنها الجدية والمثابرة في كل ما تتولى القيام به ودائماً ما تحسنه وتجمله وتظهره في أبهى منظر.
{} من مجالات الإبداع الموسيقي ولجت المرأة دوائر التلحين والتوزيع والعزف على الآلات الموسيقية والتجربة الأخيرة هذه لم نعتد على رؤيتها إلا مؤخراً فنادراً ما رأينا في السابق مشاركة فتيات في أوركسترا التلفزيون أو سمعنا بها في أوركسترا الإذاعة أو مشاركة لأحد المطربين وقد كان المثال الموجود بقوة هو المبدعة زكية أبو القاسم زوجة الفنان الكبير شرحبيل أحمد أول عازفة على الجيتار وأيضاً المبدعة أسماء حمزة عازفة العود الشهيرة.
وفي الفترة الأخيرة ظهرت عازفات مجيدات ضمن الفرق الموسيقية وأوركسترا القنوات الفضائية مما غيّر كثيراً من مظهر هذه الفرق ليصبح أكثر جمالاً وحضارة.
ومعظم العازفات كُن في مجال آلة الكمان التي تعتبر لدى أهل الموسيقى أداة معبّرة عن المرأة لتميزها بالدلع والحساسية بينما رفيقتها آلة الشيلو على سبيل المثال تعبّر عن الرجل لتميزها بالوقار ورخامة الصوت لكنهما في الحالتين يعبّران عن البكاء وكلٌ يبكي على ليلاه، فيقال إن المرأة تبكي من أجل شيء تريده وهي بالتالي تبكي وتبكي معها آلة الكمان على المستقبل بينما يبكي الرجل على شيء فقده فتبكي آلة الشيلو على الأطلال.
{} آلة الكمان تمثل قمة الرقي بأوتارها الأربعة وقوسها الجميل وقد استخدمت كثيراً بصوتها الحنين في الموسيقى الكلاسكية بما تمتلكه من قدرة على التعبير الإنساني المرتبط بالمعاني الرقيقة والمشاعر الدافئة وحتى عند الانفعالات الغاضبة لأنها تتميز بتقنيات مختلفة للعزف عليها فكان لها القدح المعلى في الأوبرات والأوركسترات السيمفونية حين كتب لها أعظم المؤلفين الموسيقيين مثل بيتهوفن، موزار، باخ وباغانيني.
{} عموماً يسحرني العزف على آلة الكمان خاصةً عندما تقوم به امرأة أو عزف جماعي رجالي، فلم تشدني تجربة الرجل (الفردية) لعزف الكمان حيث يظهر بجلاء عدم التناسق المعنوي بين رقة الآلة وبكائها الأنثوي وخشونة الرجل وبكائه الأجش وتأوهاته وتمايلاته المفتعلة في الوقت الذي أسرتني تجربة العزف المنفرد حين قامت بها امرأة فجاء التناسق مكتملاً بين عذوبة المرأة ورقتها وسحرها وبين أنين الكمان وتأوهاته تحت أنامل المرأة ومرور القوس برقة متناهية على أوتار النغم والحنين.
لكن في وجود أوركسترا ومجموعة عازفين على هذه الآلة تتلاشى هذه المقارنات ويستبين الفعل الجماعي الذي يلغي التداعيات المنفردة ويوحي بروعة الانسياب الجماعي في وجود عازفين من الرجال وعازفات من النساء في أوركسترا مكتملة وجذابة.
{} وقبل أيام شاهدت المبدعة سارة شحاتة وهي تقدم عزفاً رائعاً على آلة الكمان وخلفها مجموعة موسيقية فكانت تجربة في غاية الجمال والأناقة فأسعدني تحديها كامرأة خوض هذه التجربة وهي بالتأكيد ليست بالأمر السهل وبها مسؤولية كبيرة؛ فآلة بهذا الزخم والتاريخ تحتم على حاملها ومن يجعل منها منهجاً للقيادة وللسحر أن يكون على قدر الحدث، ودون شك كلي ثقة بمقدرات سارة كموهبة وكامرأة في تأكيد ومواصلة التجربة وتسجيل تفردها وجعلها حدثاً مؤثراً.
شاهدت سارة أيضاً مع بعض الفرق الموسيقية الجادة كفرقة الموسيقار الدكتور الفاتح حسين ومع أكثر من أوركسترا موسيقية عبر الفضائيات السودانية المختلفة برفقة العديد من المطربين كما سعدت كثيراً بوجود عازفات أخريات يمثلن إضافة مقدرة للعمل الإبداعي في بلادي.
{} ما أدهشني في سارة كذلك هو صوتها الجميل حين غنّت وكنت قد استمعت إليها في تسجيل على موقع «اليوتيوب» فكان صوتها يفيض جمالاً وسحراً وعذوبة ويضاهي آلة الكمان روعة وانسياباً أنثوياً حالماً بالصفاء والألق مما يؤكد أن لها موهبة فطرية جعلت من أوتارهــــا الصوتية تدفقاً غنائياً جميلاً ومن أوتار كمنجتها ألحاناً موسيقية حالمة وندية.
ومن حديثها القليل في ذلك التسجيل يبدو جلياً أنها متعلمـة موسيقياً ومثقفة في مجالها، كما تتحدث بهدوء ورزانة ولا تثير ذلك الضجيج الذي تفعله الأواني الفارغة.
{} حقيقةً يعجبني كثيراً أداء عازفي وعازفات الكمان مع الفرق الموسيقية السودانية الذين يجيدون العزف على هذه الآلة بفن وتواضع واتزان وأتمنى أن تقترن تجربة سارة مع أداء هؤلاء الرائعين ليخرجوا لنا سيمفونيات عظيمة تسجل في تاريخ الموسيقى وهج إبداعنا السوداني وروعة موسيقانا.
{} وأنا أتأمل تجربة سارة تداخل ذاكرتي تلكم التجربة العظيمة لموسيقارنا الكبير حافظ عبد الرحمن مع الفلوت التي نقلت حقيقة الفن السوداني لسماوات بعيدة من الألق وجعلتنا نحلق في نشوة بين السحاب، كما استطاعت تلك التجربة أن تنقل الفن والموسيقى السودانية لكل العالم.
فتحية تقدير كبرى لمبدعنا العظيم حافظ عبد الرحمن وحتماً أعود لدهشتي به وبشخصيته الجميلة خاصة بعد أن استمعت إليه بالصالة الثقافية بالبحرين وشاهدت كيف أدهش حافظ الحضور من كل الجنسيات.
أنا على يقين إن تواصلت مثل هذه التجارب ستصبح منهجاً يحتذى به يشكل مع تجربة حافظ نقلة نوعية في عطائنا الإبداعي في مجـــال الموسيقى.
مدخل للخروج:
من غير الوعد يمص رحيق النبع السابح حين يرفرف علم الإلفة في الأعصاب.. كم شهق الصوت الطالع من أحشاء البرق سراب..
سلّم للريح جذور الشجن النائم خلف الباب.. من عبر إليك تصدع في صحراء البحر وذاب.. من قام بأرضك هاجر منك إليك تشبع ثم انساب..
واحترق سكونك في أجراس الصمت وغاب.. جدد للذنب صهيل العفو وشتت ضوء الشمس القاطن في الأهداب.
(أرشيف الكاتب)

Exit mobile version