> تجربة حركة النهضة التونسية تتجاوز مداها القطري لتصبح ملهمة حتى لمخالفيها والمناهضين لفكرها، وخلال وجودنا هنا في تونس للمشاركة في اجتماعات الجمعية العامة للصحافيين العرب المنعقدة حالياً في تونس، وتزامنت مع مؤتمر حركة النهضة، لم تخطئ أعيننا الاهتمام الكبير في الشارع التونسي وعند المواطنين العاديين ووسائل الإعلام، بالتحولات الكبيرة للحركة وما باتت تمثله كحجز زاوية في تحريك الحياة السياسية ومبادراتها، وانفتاحاتها على كل قضايا المجتمع وتحدياته، ليس على صعيد تحديث نظرتها للواقع وللأقضية المختلفة وحدها، وإنما رغبتها في تجديد مفاهيمها السياسية والاجتماعية دون أن تتراجع قيد أنملة عن ثوابتها ومرتكزاتها، وهي تنطلق بفقه متجدد لامس معضلات المشكل الاجتماعي السياسي الذي تعيشه تونس والمنطقة جراء ما طرأ عليها خلال العقدين الماضيين وعقب هبوب الرياح العاتية لثورات الربيع العربي، وما أحدثته من اقتلاعات لأحجار الماضي بكل ما تعنيه الكلمة من معانٍ. > الملاحظ هنا في تونس لدى أعداء حركة النهضة ومعارضيها خاصة اليسار التونسي والعلمانيين المتدثرين بعباءة عبارة الحداثة الفضفاضة، أنهم باتوا يحترمون النهضة أكثر بمقدار ما يخشونها، وقال لنا أحد رموز التيار الحداثي العلماني: «إن النهضة تتقدم نحو قلاعنا مثل الضوء وتجتاحنا دون أن نكون قادرين على وقف زحفها، لأن خطابها الجديد وأدواتها الحديثة فاقت تصوراتنا». > وليس صحيحاً النظر إلى أن تطورات حركة النهضة وفهمها العميق الذي طرحته في القضايا الوطنية التونسية وتعاطيها مع هموم المنطقة والعصر، هو وحده نتاج أفكار الشيخ راشد الغنوشي وحياته في الغرب عندما كان مقيماً في بريطانيا وعاد عقب الثورة التونسية الظافرة إلى بلده، لكن الحركة التي يمثل الشباب من الجنسين ما يقارب السبعين في المائة من عضويتها ووجود نسبة تصل إلى 95% من العضوية لشباب متعلمين من خريجي الجامعات والمعاهد العليا، ونسبة مقدرة منها من حملة الشهادات العليا في مختلف مجالات العلوم، أعطى الحركة قدرة ذاتية على إدارة نقاشاتها الداخلية وإجراء المراجعات الضرورية لرؤيتها للحالة التونسية ومطلوباتها، واستطاعت هذه التيارات والفئات داخل التنظيم تحقيق المطلوبات ما بين ما تريده داخل القطر التونسي وما يريده منها، وهي معادلة دقيقة وصعبة بما لجأت إليه كما يقال عند ألد خصومات لإكراهات الواقع التونسي، وتعد الخطوة لدى النخبة العلمانية المتوجسة نوعاً ما، خطوة ذات منحى تكتيكي، ربما تتغير بتغير الظروف في مقبل الأيام. > ومن النقاشات التي تدور بقوة داخل المجتمع السياسي التونسي، أن النهضة لا تقدم تنازلات فكرية وسياسية فقط من أجل واقع متغير بسرعة في بلدها وفي المنطقة بأسرها، لكنها في كل الأحوال تقدم تنازلات من أجل مستقبلها هي، فالرهان على الغد واستشراف التالي برغم الغيوم الكثيفة التي تتلبد بها سماء المنطقة هو ما دفع النهضة الى تحديث أو تجديد أو قل تغيير خطابها السياسي والإعلامي، وفي فصم العلاقة ظاهرياً ما بين الشأن السياسي والدعوي، ولا يتصورن أحد أن هذا الفصل لن يكون له تأثير بالغ في توجهات النهضة وفي عضويتها المشغولة بهذه التطورات الكبيرة. > وبما أن انشغال الشارع التونسي، في أوج تفاعلاته بمؤتمر النهضة كما نرى واهتمام الدولة والإعلام هنا بما يجري، فإن الفكرة تقول إن الشيخ راشد الغنوشي البالغ من العمر ستة وسبعين سنة بدأ يمهد الطريق للحركة التي يعد أباها الشرعي، لتعبر إلى مرحلة جديدة وتضمن تماسكها حتى لو غاب هو لا قدر الله عن المشهد السياسي والفكري التونسي، ولا يخفي كثيرون من مختلف التيارات السياسية التونسية إعجابهم بشخصية وذكاء الشيخ راشد وقدرته الفذة في جعل حركته هي محور الحياة السياسية التونسية وعمودها الفقري، فهو الذي يسند تركيبة الحكم الحالية والمدافع عنها برغم حصته الضئيلة جداً في الحكومة التي ارتضاها من أجل إنقاذ تونس كما يقول، والحيلولة دون وقوعها في قاع الانقسام والتشرذم والمواجهات. > ما تقوم به النهضة في تونس اليوم، تحول هائل وانبثاق لفكر جديد للحركات الإسلامية الحديثة، نادى به الدكتور الترابي رحمه الله من عدة عقود في السودان وكتبه في كتب ورسائل وتصورات عديدة مكنت في سبيل تطبيقها الحركة الاسلامية السودانية من الجلوس على منصة الانطلاق لتغيير الواقع السوداني وإدارته وتوجيهه، ومدرسة الترابي وطريقة تفكيره هي التي تعمل الآن في عقول الكثير من القيادات الإسلامية، ومنهم الغنوشي الذي لا ينفك يتحدث عن أستاذية الترابي في منهج التفكير الذي يؤمن به.