خربشات (الجمعة)
هي طفلة دون سن العاشرة تقف في شمس الخرطوم اللافحة، تتصيد أصحاب السيارات القادمين من بحري إلى أم درمان، ومن الخرطوم عبر شارع جنينة السيد “علي الميرغني” تسألهم في حسرة وألم مكتوم في أحشائها الصغير أن يتصدقوا عليها بجنيه.. أو أي شيء.. وقفت بالقرب من نافذة سيارتي.. سألتني جنيهاً بحثت عن عملة معدنية لم أجدها.. علامات الاستوب الحمراء اقتربت من التلاشي.. نظرت لكيس الرغيف وقالتها بحسرة عارية من كل تعابير السترة (عمو أديني عيشة من رغيفك).. تمزق قلبي حسرة وألماً.. نظرت لعيونها النظيفة ووجها المضيء رغم قسوة الفقر ومرارة الحرمان.. على خصلات شعرها القرقدي، شيء من تراب المدينة المتسخة.. وتمشي حافية القدمين.. شوت شمس الخرطوم وأشعتها اللافحة أقدامها.. أصبحت الأقدام لا تبالي بحرارة الأسفلت، تكونت طبقة سميكة من الجلد لمقاومة حرارة الأسفلت.. وهي (داقشة) المدينة الفاجرة المتسخة تبحث في خشاش الأرض عن أي شيء.. جنيه.. قطعة موز.. رغيفة.. برتقالة.. تلتهمها في جوفها الجائع.. تنظر الطفلة في براءة لعيون أصحاب السيارات وجيوبهم.. البعض (ينهرها) ويقهرها.. ومجتمعنا الذي يسكن العار دواخله يقهر اليتيم.. وينهر السائل.. لأن مدينتنا لا تقرأ القرآن وإن قرأته تتخير منه ما يبرر سلوكها.. ويؤسس لطغيانها.. تأخذ مدينتنا آيات الغلظة والشدة على الكفار والمرجفين.. وتسقطها على الفقراء والمساكين.. نظرتُ إليها وهي تبتعد عني وقد وضعت رغيفتها على صدرها العاري.. حاولت رفيقة بؤسها.. وزميلة شقائها أن تشاركها (قرض) العيشة لكنها في حنية وعطف.. وخلق قويم.. قسمت الرغيفة إلى نصفين لتطعم جارتها في شارع التسول بما جادت به أياديها الممدودة للناس.. أين تنام طفلة الشارع ? وكيف تحصل على جرعة الماء.. والأحياء السكنية تبحث عن قطرة في صنابير شاخت جفافاً.. من أين جاءت طفلة الشارع؟ والمهم لماذا جاءت؟.. وهل ظاهرة أطفال الشوارع في تنامي وتزايد أم في انحسار.. جاءت الطفلة من حيث فجيعة الوطن الممزق بالأحزان والدموع.. جاءت حيث يقتل الناس برصاص التمرد.. والمليشيات.. وتغتصب القرى.. وتنتهك الحرمات.. حيث أغلقت المدارس أبوابها.. وجفت المستشفيات من الدواء.. واستحالت الحياة أي حياة.. لأن الحياة الكريمة درجة يصعب بلوغها.. أين والدها.. هل قتل في هجعة الليل؟.. أم كان يدافع عن قريته.. وقتل؟.. أم يدافع عن حكومته وقتل، والموت في بلادنا تتعدد أوجهه وأسبابه ولكنه يبقى موتاً.. إلا أن الموت في مناطق النزاعات يحصد الفئات العمرية دون الستين.. وللأطفال النصيب الأكبر من الموت.. هل الطفلة التي تسأل الناس في شوارع الخرطوم حينما تسأل عن أسباب شقائها.. وعدم تلقيها تعليماً يجعلها موظفة في الدولة، وأين والدها.. وأين دفنت أمها.. وكيف فقدت أشقاءها.. ربما لا تجد من يجيب على أسئلتها لأنها خطيئة السياسة ولقيطة الفشل.. وثمرة الصراعات المُرة وضحية تسأل يوم لا ينفع مال ولا سلطة الذين جعلوها تبحث عن الخبز الحاف في الطرقات ومثيلاتها يسهرون الليل في (ذي ألوان) وفي مثل هذه الأيام يمتعن أنفسهن بجمال طقشند وسحر الملايو والبلاد الأجنبية.. وهي تحتضن أسى ورماد وطن يزرع في نفس الصغار الأسى والإحباط ولا يعلمهم حتى الصلاة كيف ولماذا.. ولكنه يدعوهم لحمل السلاح أن ترق منهم دماء.. أو ترق كل الدماء.. ولو كانت الدماء تبني الأوطان لأصبحت هذه البلاد في مصاف البرازيل والهند وسنغافورة!!
(2)
من حق الأمين العام لاتحاد الصحافيين “صلاح عمر الشيخ” توقيع اتفاقيات مع حكومات الولايات والشركات والوزارات بتنظيم المعارض التجارية والسياحية.. ولكن من حق الرأي العام معرفة الأموال التي دفعتها حكومة جنوب كردفان لشركة “صلاح عمر الشيخ” لتنظيم مهرجان للسياحة والتسوق في كادوقلي الخريف القادم.. ومن حق الوالي أن يتفاءل جداً بأن الأوضاع الأمنية في ولايته تسمح للسواح بالتدفق لكادوقلي في فصل الخريف، ولكن من حق أبناء الولاية المطالبة أولاً بفتح طريق الدلنج الأبيض ليلاً وتأمين قرى محلية القوز التي تتعرض لعمليات تقوم بها الحركة أسبوعياً وآخرها نهب (120) رأساً من الإبل قبل أسبوعين.. ونهب أبقار المواطن “الزين أبو زيد الغائب” يوم (الثلاثاء) الماضي من حي المطار بالدلنج.. صحيح أن أربع عشرة رئاسة محلية آمنة والوضع تحت السيطرة فيها، ولكن كم محلية يعبث فيها التمرد فساداً باستثناء عاصمة المحلية.. مثل كادوقلي مدينة بلا ريف.. والدلنج كذلك؟؟
الأحلام الجميلة والتفاؤل الذي يبديه الوالي د.”عيسى آدم أبكر” وحده لن يغير الواقع.. والسلام الذي يبشرنا به يومياً بأنه أقرب من حبل الوريد يراه المواطنون بعيداً جداً، فالتمرد رافض لخارطة الطريق ويضع رهانه على الحرب وحدها.. والخريف بدأت فصوله ولكن لا يزال الحديث عن الصيف مسيطراً على أبواق الإعلام الذي تم حشده (الأربعاء) الماضي بفندق كورال الخرطوم عن مهرجان كادوقلي، وبدأت المسافة بين أسئلة الصحافيين والواقع بعيدة جداً.. ودعونا نحلم مع الحالمين بولاية خالية من التمرد، ومهرجان سياحة ناجح يجذب المواطنين في الداخل أولاً.. قبل الأجانب.. من المفارقات أن بعض (المستهبلين) جاءوا بفتاة قيل إنها مستثمرة روسية.. وصلت الخرطوم وهي تموت في حب جنوب كردفان وجبال النوبة، الولاية التي يعشق البعض بعيرها مثل عشق نواب البرلمان لحكومتهم.
(3)
“التيجاني حاج موسى” الشاعر الأديب الكاتب شفيف العبارة عندما كنا نرعى الأبقار في بادية كردفان، كنا ننتظر بشغف يوم (الثلاثاء) حيث برنامج ما يطلبه المستمعون.. وغالبهم يطلبون أغنيات كتبها “التيجاني حاج موسى” لأمه “دار السلام” وقصر الشوق التي تغنى بها العندليب الأسمر “زيدان إبراهيم”.. لو لم يكتب “التيجاني” إلا قصر الشوق لوضعته تلك الأغنية بالقرب من شعراء مثل “الحلنقي” و”الطاهر إبراهيم”.. لكن هذا المعذب النبيل لا يزال عاشقاً للحرف الندي.. مغرماً بالجمال.. والشعر.. وبياض النية ونقاء الدواخل من صفات “تيجاني” الذي كنت أردد بين الوديان والفلوات البعيدة:
أقول أصبر على الهجران
أقول أنساك لا بد..
أشوف بس طرفك النعسان
تخوني القوة والشدة
أصبر قلبي على الهجران
يثور ماضينا ويتحدى
يا قصر الشوق لو هداك
حبيبك ومرة ليك صدّ
حتى يقول في آخر الأغنية الرائعة:
وحات عمراً قضيتو معاك
محال عن ريدك أرتد
وراجي العين تلاقي العين
واحضن إيدك البضة
طبعاً “تيجاني” كتب هذه الدرر في زمان الشوق والحرمان.. والعشق الشفيف، لكن في زمان الواتساب جفت ينابيع الحنان.. وكل (جمعة) والجميع بخير.