التجانى حاج موسى : كوم تراب وأذرع قماش

“يعني ما علقت على قصيدتي الوطنية!!”.. “طبعاً جميلة جداً وغنائية مليانة موسيقى وتصلح للغناء”.. “تلحنا؟!”.. “لا نديها لي ملحن كبير ويؤديها عدد من الفنانين الكبار والصغار، فالوطن محتاج لأغنيات جديدة تحرضنا جميعاً على محبة الوطن ونبذ الخلاف والاحتراب واستغلال نعمه وموارده عشان ينهض الوطن من كبوته ويصنع الحياة وخير البلد كتير ذي ما أنت عارف يا سعد”.
تلك كانت آخر محادثة مع أخي وصديقي وود حيي المرحوم بإذن الله الأستاذ الشاعر الكبير “سعد الدين إبراهيم”، كانت المحادثة قبل دقائق من فجر وفاته.. قبل شروق الشمس (الخميس) الحزين صدر صوت رسالة استقبلها هاتفي بعد صلاة الصبح.. كانت صادرة من هاتف “سعد”.. قرأتها، توفى إلى رحمة مولاه “سعد الدين إبراهيم” فجر اليوم ويشيع جثمانه بمقابر الحلفايا الساعة الثامنة صباحاً!!
ده شنو؟! يا ربي “سعد” بهاظرني؟! والحاصل أن أحد أفراد الأسرة عمم إرسال الرسالة لكل المدونين في قائمة هاتفه.. بعدها توالى رنين هاتفي.. “شكر الله”، “هلاوي”، “سوركتي” وآخرون، عند شروق الشمس أدرت عربتي متجهاً إلى “الحلفايا” حيث يسكن “سعد”.. أما عن كنه شعوري فقد كان يشبه شعوري بفقد ورحيل أمي “دار السلام” فجر رمضان قبل الماضي.. شعور يشبه نفس شعوري بفقد “سعد”.. نطَّ قلبي وسدَّ حلقي وضاق النفس في الحلقوم وامتلأ فضاء الصباح بنجوم حمراء وجسمي كان خفيفاً كأنما أفرغت أحشاءه وزغللت عيوني وتوقفت الغدة التي تجود بالدموع وحالة من الذهول وغياب الوعي، ولم أعد كما كنت إلا بعد أن احتضنت الأحبة وبدأنا عويلاً ونحيباً، كنا في أمس الحاجة إليه في تلك اللحظات، وأظن أن أرواحنا قد عادت لها الحياة بعد أن زال احتقان الجوف والفؤاد بحزنٍ لا تتحمله النفس، كاد أن يذهب بأرواحنا.. وصدق الشاعر حينما قال “كفارة البيك بزول والمرض ما بكتلو زول”.. فالراحل مرض مرضاً في تسعينيات القرن الماضي ورقد بالسلاح الطبي، ولم يدرك الأطباء علته إلا مصادفة، وكنا نعوده كل يوم حتى صار عظماً وجلداً إلى أن جاء تشخيص علته بأنه مرض النقرس (القاوت) فأخذ عقاقيره وشفى وعاد “سعد” الذي نعرفه.. وكثيراً ما كان يقول لي أنت محافظ على وزنك لأنك نباتي!! وقبل شهرين رقد في (مستشفى البراحة) أياماً وحدثني حينما زرناه بالمنزل بأن علته تكمن في إتباعه (رجيم) غذائي معين ورياضة المشي، وبالفعل اتبع (الرجيم) الصارم فأقلع عن اللحم الذي يحبه وقائمة من الأطعمة الدسمة والسكر والحلويات، وبدأ ممارساً لرياضة المشي التي ساعده موقع سكنه بـ”الحلفايا” المجاور لكبريها الذي أقيم عابراً للنيل من “الحلفايا” إلى أم درمان، وبدأ نشطاً وأخذ يتعافى لا يشكو من أية علة مملوءاً بالتفاؤل والفرح والإقبال على الحياة والعمل الدءوب في كتاباته الإبداعية والصحفية، وبدأ في تسجيل حلقات للإذاعة السودانية، وكان من المفترض إكمالها ثلاثين حلقة من إعداده وتقديمه، لكن وآه من لكن تلك، فقد جاء أجله المحتوم الذي قدره الله في الفجر الأليم المعلوم، ونقلت الوسائط خبر وفاته الذي تزامن مع وفاة مبدع آخر هو الأخ المخرج الفنان “جلال البلال”، وتوزع المبدعون والمعزون بين (الفراشين).. يا سبحان الله، رحيل جماعي لأصدقائي المبدعين أستاذنا الشاعر الكبير “أبو قطاطي” والإعلامي الصديق المهندس “صلاح طه” والمعلم الشاعر الإعلامي “محمود خليل” و”سعد الدين” ونفر آخر من الأصدقاء، ومعظم من رحلوا كان الرحيل فجأة دون مقدمات – الله يطيب أعمالنا جميعاً – والموت هو الحقيقة الأزلية الوحيدة التي لا تقبل الدحض أو التأويل، ويا جماعة الخير فلنتعلم بأنها زائلة أعمارنا وحياتنا ولا نحمل من دنيانا إلا أذرع من قماش وحنوط وأشبار في التراب، فلنمش في مناكبها بالمحبة وإليه النشور.

Exit mobile version