الترابي..جرأة تحول المواقف

ندى محمد أحمد من المميزات التي اتسم بها زعيم الإسلاميين، والأمين العام للمؤتمر الشعبي الراحل حسن عبد الله الترابي، هو القدرة على التحول من موقف ما إلى نقيضه تماماً متى ما استدعت الظروف والوقائع ذلك. ولعل هذه بعض صفاته التي جعلته ملء السمع والبصر. وانشغال الناس بما يصدر عنه من أفعال وأقوال. ومن بعض النقلات الهائلة في مسيرة الشيخ الجليل، والحركة الإسلامية بطبيعة الحال هي المشاركة في حكومة الرئيس السابق جعفر محمد نميري من بعد محاربته لها ، والتي تحدث عنها بصراحة كبيرة أول أمس الأحد في الحلقة الخامسة من برنامج «شاهد على العصر» بفضائية الجزيرة. من بعد أن أفلحت القوى السياسية والطلاب في إزاحة الرئيس العسكري إبراهيم عبود الذي اختار التنازل عن الحكم طواعية إثر المظاهرات التي خرجت تطالب بمغادرته للسلطة، والتي مهدت لعودة الديمقراطية مجدداً، ولكن ما لبثت الأخيرة بضع سنين حتي وئدت مجدداً، فقد تحرك الجيش بقيادة النميري معلناً عن انقلابه الجهير مايو 1969م، ليعتقل الترابي سبعة أعوام دفعة واحدة، ولاحقاً اعتقلت قيادات الاتحادي والأمة. لم تقبل الأحزاب بالانقلاب كانقلاب أولاً، وثانياً من حيث وجهته اليسارية الصارخة. فغادرت قيادات الأمة والاتحادي للخارج، حيث اتحد الحزبان مع الحركة الإسلامية وكونوا ما عرف بـ«الجبهة الوطنية الديمقراطية»، التي دخلت الخرطوم غازية عام 1977 بهدف تغيير نظام الحكم المايوي، والتي أسماها النظام بضربة المرتزقة. ولجملة من الأسباب فشلت المحاولة التي مهدت للمصالحة بين أطراف الجبهة الوطنية ونظام نميري. عقب المصالحة، رفض حزب الأمة المشاركة في نظام مايو، بينما قبلت الحركة الإسلامية المشاركة التي هيأت للحركة الإسلامية الأسباب للانتشار الواسع في العمل الطلابي والدعوي والجماهيري، كما مكنتها من الالتفات للجانب الاقتصادي للحركة والذي تم التأسيس له وتوسعته في تلك الحقبة، من خلال انتشار قيادات الحركة في النظام الاشتراكي. فالترابي تقلد منصب وزير العدل ومسشار الرئيس، والشيخ أحمد عبد الرحمن وزير الداخلية، وغيرها من المهام والمواقع القيادية. الترابي المتخصص في القانون الدستوري في حديثه للجزيرة، صرح بأنه أحدث تغييرات واسعة في دستور نظام النميري حتى يتسنى له مواكبة النظم الإسلامية التي جاءت بها الحركة الإسلامية، من قبيل التغيير في القانون الجنائي. غير أن النميري حاول محاربة ذلك كثيراً بإصدار التشريعات بنفسه. وأبان الترابي أنه أراد الاستفادة من قيادته لوزارة العدل للترويج لخطة محكمة تعتمد على إيصال أفكار الحركة لعامة الشعب، فضلاً عن محاربة الظواهر السالبة وفي مقدمتها شرب الخمر، غير أن النميري أراد أن يكون له قصب السبق في إراقة الخمر قبل الإسلاميين الذين وضعوا ذلك ضمن خططهم. وفي تقييمه للنظام المايوي الاشتراكي، وصفه الترابي بالفارغ والشكلي، وأنه لم يكن إلا إطاراً للإسلاميين المشاركين في حكومته آنذاك، وأن الحركة أفلحت في ترويج أفكارها عبره رغم ظل النظام الاشتراكي. عقب واقعة المفاصلة الضخمة بين الإسلاميين في الرابع من رمضان 1999م، اتجه الترابي بعد تأسيسه لحزب المؤتمر الشعبي لمعارضة النظام، وأقدم على خطوة فارقة للغاية، ألا وهي توقيع مذكرة مع الحركة الشعبية بقيادة جون قرنق بتاريخ 2003م، التي أمضى عقداً من الزمان في محاربتها قبل المفاصلة، بل ودعمت حركته الجيش في محاربتها في الديمقراطية الثالثة، مما دفع الحكومة لاعتقاله. ومضى الشعبي في معارضته للنظام، ليصبح الحزب الأعلى صوتاً في مواجهته وفي الدعوة لإسقاطه، وانضم إلى تحالف قوى التجمع الوطني وصار أحد أحزابه الرئيسة، ولاقى في سبيل هذا ما لاقى من عنت ومشقة، وتوالى السجن على الترابي مرة بعد أخرى، ومن بينها دعوته للرئيس لتسليم نفسه للمحكمة الجنائية الدولية التي أصدرت مذكرة توقيف بحقه في 2009، مضى الشعبي بقيادة الترابي في طريقه ذاك غير هياب إلى أن كانت ثورة سبتمبر 2013م التي خرج فيها الناس احتجاجاً على رفع الدعم عن المحروقات، هنا بانت إرهاصات بتحول هائل للشعبي بقيادة الترابي. فالشعبي لم يشارك القوى السياسية في المظاهرات رغم ضعف مساندة الأحزاب لها، فضلاً عن عدم تعليقه على قضية قتلى المظاهرات والتي تجاوزت الثمانين قتيلغاً. وأذكر أنني في أحد المؤتمرات الصحفية للشعبي، سألت الأمين السياسي كمال عمر، عن صمت حزبه عن الأمر، فقال فيما معناه إن الأمر ليس كبيرًا لهذه الدرجة، ولم تتضح هذه الإرهاصات إلا مساء السابع والعشرين من يناير 2014م، عندما ظهر الشيخ بخطواته السريعة والواثقة في قاعة الصداقة تلبية لدعوة الرئيس للحوار الوطني، وقتها تحلقت وسائط الإعلام المختلفة حول الشيخ في محاولة لفهم الموقف الجديد للشعبي. ولاحقاً توالت التصريحات والمعلومات من لدن المنشية لتوضح سر العودة للتآلف مع القصر الذي فارقه فراق من لا يرجى عودته كما في المفاصلة. الترابي نفسه في تصريحاته المتعددة أوضح أنهم يخشون على السودان من مصير دول الجوار التي هبت عليها ثورات الربيع العربي فانتكست وتشرذمت، وعبر عن خشيته في أن يلحق السودان بذات المصير بقوله لا لهدم البيت. أما تصريحات كمال عمر، التي نشرتها الصحف آنذاك فقد ذهبت الى أن قوى التجمع في المظاهرات أقصت حزبه ولم تشركه في التنسيق الذي تم بين قوى التجمع، ثانياً تحدث عن التأييد الكبير لقوى التجمع للانقلاب الذي قاده وزير الدفاع المصري عبد الفتاح السيسي ضد حكم الإخوان المسلمين في مصر بقيادة محمد مرسي رهين الحبس والمحاكمات الى الآن. وفسر كمال الأمر بأن قوى التجمع تتعامل مع الديمقراطية بالتجزئة. فهي تقبلها عندما تقدمت الأحزاب غير الإسلامية، وترفضها عندما تقدم الإسلاميون. واتضح لاحقاً أن ثمة اجتماعات تمت بين الرئيس والترابي قبل قرارات رفع الدعم حول الحوار، وهي التي دفعت الشعبي للعزوف عن التعليق على مظاهرات سبمتبر وقتلاها. وهي التي أفضت للتحول الكبير الذي أقدم عليه الشعبي وما زال.

الانتباهة

Exit mobile version