مشاهد ومواقف (7)
بسم الله الرحمن الرحيم
دكتور الترابي الذي عرفته
الترابي المخطط البارع – التخطيط والقيادة
يعرف الأكاديميون التخطيط والمواءمة بين ما هو مطلوب، وما هو متاح عملياً، فهو يعني تعبئة وتنسيق وتوجيه الموارد، والطاقات والقوى البشرية لتحقيق أهداف معينة، ويتم تحقيق هذه الأهداف في فترة زمنية معينة تحددها الخطة، وتعمل كل خطة على تحقيق الأهداف، بأقل تكلفة ممكنة عملياً. ويعرف “لينمان” التخطيط بأنه “هو ذلك الفعل المتعمد والمنسق الذي يقوم به المخططون هادفين من ورائه إلى تحقيق أهداف عامة، أو أغراض محددة من أجل مصلحة ومنفعة أفراد الدولة، سواء قام بذلك أفراد الهيئة البرلمانية في الأمة، أو سعت إليه الحكومة مباشرة”.
أما القيادة تعود أهميتها إلى العنصر البشري الذي أخذ يحتل المكانة الأولى بين مختلف العناصر الإنتاجية الأخرى التي تساهم في تحقيق أهداف المشروع المنشود، فسلوك الفرد من الصعب التنبؤ به نظراً للتغيرات المستمرة في مشاعره وعواطفه، كذلك التغير في الظروف المحيطة بالمشروع من شأنها أن تؤدي إلى تغير مستمر في السياسات، وذلك لكي تضمن المنشأة الحد الأدنى المطلوب من الجهود البشرية اللازمة لتحقيق أهدافها وضمان استمرارها، فيجب أن توفر للأفراد قيادة سليمة وحكيمة تستطيع حفظهم والحصول على تعاونهم من أجل بذل الجهود اللازمة لإنجاز المهام الموكلة لهم، وقد دلت الدراسات المختلفة على قلة عدد القادة نسبياً “فالقدرة على القيادة سلعة نادرة لا يتمتع بها إلا القلائل من أفراد المجتمع”، يعتبر “د. حسن الترابي” أحد هؤلاء القلة ممن لهم المقدرة العالية على القيادة وحسن التخطيط، فإن كنا قد أشرنا في المقال السابق عن بعد نظر “د. حسن الترابي” من خلال رفضه العمل من الخارج والارتهان للآخرين وتفضيله مجابهة بطش الأنظمة والحكام على الارتهان للغريب، وهذا لعمري لمثال جيد للتخطيط الجيد وحسن القيادة.
المتتبع لسيرة الدكتور “حسن الترابي” وهو على دفة قيادة التيار الإسلامي يقف عند نموذج طيب لحسن التخطيط، بروز التيار الإسلامي كتيار سياسي منافس وسط التيارات السياسية التقليدية في السودان (الاتحادي الديمقراطي وحزب الأمة) المنبثقان من قواعد إسلامية هي الأخرى، لكنها بيوتات دينية تقليدية امتهنت العمل السياسي خلال فترات النضال ضد المستعمر في العهدين (التركي) و(الانجليزي) لاحقاً وهما طائفتا (الختمية والأنصار)، بروزه استدعى الكثير من الجهد والتخطيط سيما أن السودان كان منقسماً على هذين التيارين السياسيين الكبيرين وبعض القوى السياسية الصغيرة الجنوبية مثل حزب (سانو) والقوى اليسارية المتعددة، خلال فترة ليست بالطويلة وبكثير من الجهد والتخطيط المحكم أصبح للتيار الإسلامي موقعه الصداري بين القوى السياسية السودانية، وذلك للمقدرات العالية لربان السفينة دكتور “الترابي” الذي أفلح في قيادة هذا التيار الوليد، مستنداً إلى مقدرات قيادية وخبرات وعلوم دينية ودنيوية ورؤية تأصيلية للعمل السياسي الإسلامي اقتبسها نقلاً عن تجارب السلف الصالح وأولهم رسول الله صلوات ربي وسلامه عليه قال تعالى (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)، والرسول “صلى الله عليه وسلم” يقول (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه)، فالدكتور “الترابي” تحمل ما تحمل من سجون وأذى حسي ومعنوي وتسفيه لأفكاره والتغرير به لأهل السلطة عن خطورته وخطورة ما يدعو إليه، إلا أنه كان لا يردف الخطوة بأختها حتى يتأكد من ثبات الأولى ورسوخها، ولم يكن متعجلاً وإنما كان واسع الأفق بعيد النظر، لذا لم تثنه الخيبات ولا العثرات، فلم يستمر الحال على ما هو عليه كثيراً حيث بدأ الناس يحسون تفرد التيار الإسلامي ومناسبته لأهوائهم خاصة الطلاب والمثقفين، لتتسع قاعدة المنتمين للتيار الإسلامي وممارسة العمل السياسي تحت مسمى إسلامي راشد، نعم قد يقول قائل إن العمل في بداياته كان تحت إمرة تنظيم الأخوان المسلمين المعروف، لكن إن من المبهر أن نكتشف بعد النظر لدى “الترابي” من خلال تبنيه لعمليه أخذ مسافة عن تنظيم الأخوان المسلمين الدولي، كما أشرنا إلى ذلك في مقالات سابقة، وما نجم عن ذلك من أثر على القيادات الإسلامية السودانية في المهاجر، وأنا على ذلك من الشاهدين، وانتهاج نهج خاص وبسياسة خاصة أفلح من خلالها “د. الترابي” في إحداث تغييرات هيكلية وتنظيمية خاصة بعيداً عن النقل وما كان لها من تأثيرات كبيرة في السياسة السودانية، وعلى المجتمع السوداني حتى هذه اللحظة، وليس هناك أثر أكبر من إنزال الشريعة الإسلامية إلى أرض الواقع من خلال مشاركة (جبهة الميثاق) ومن بعدها (الجبهة الإسلامية القومية) في حكومات محاطة بقوى سياسية مناوئة وذات توجه فكري منافٍ لفكر (الجبهة الإسلامية القومية) كالمشاركة في حكومة الرئيس “جعفر محمد نميري”، والذي تحرر من قبضة الشيوعيين لينحاز إلى التوجه الإسلامي بعد أن زج بكل قادته في السجون بإيعاز من التيار الاشتراكي، وأيضاً الالتفاف والتأييد الذي وجدته الحكومة الإسلامية الحالية في حربها ضد الصلف والطغيان الغربي وصناعة الأزمات الدولية ضد السودان، ورغم ما واجهته الحركة الإسلامية من خلال تبنيها للفكر الإسلامي وتحكيم الشريعة الإسلامية على المستويين الإقليمي والدولي، إلا أن ذلك لم يزدها إلا قوة وخبرة ودراية وذلك كله بفضل التخطيط الجيد من قيادة الحركة الإسلامية ممثلة في شخص “الترابي”. حتى أننا نرى أن الحركة الإسلامية السودانية تفوقت تنظيمياً على أغلب القوى الإسلامية في العالم رغم عراقة بعضها. الأمين العام لطائفة الأنصار الأستاذ “عبد المحمود أبو” حفظه الله في تأبينه للدكتور “الترابي” بعنوان (الشيخ حسن الترابي الإرث والمراجعة)، سرد عدداً من الانجازات والإخفاقات في مسيرة الدكتور “الترابي” ومما جاء في الانجازات:-
أولاً: استطاع أن يقود حركته ويحولها من نخبة صغيرة إلى حركة جماهيرية تمسك بزمام الدولة وتعارضها في آن واحد، مع اختلافنا معهم في الأسلوب الذي وصلوا به إلى السلطة ووسائل المحافظة عليها.
ثانياً: استطاع أن يبني تنظيماً محكماً لجماعته يلتزم نهجاً فكرياً محدوداً يدافع عنه ويعمل على نشر أفكاره ويضحي من أجل أهدافه بماله ووقته وروحه.
ثالثاً: تبنى مدرسة فكرية متحررة من الانكفاء والاستلاب، وأصّل لها مع تبني أفكار جديدة عرضها بجرأة جلبت له كثيراً من التهم التي وصلت إلى حد التكفير، ولكنه لم يتراجع بل سخر من ناقديه، وترك لجماعته مكتبة فكرية تعتبر مرجعية لكافة القضايا إلى مستوى الفرد والجماعة والدولة والعلاقات الدولية. ولعله من أوائل من نبه إلى ضرورة تجديد أصول الفقه، وقد ووجه بتهم وانتقادات كثيرة في حينها، لكن الواقع جعل العلماء يطرقون هذا الجانب مؤخراً، فقد ظهرت كتب تحمل عناوين مثل (جدلية الأصول والواقع، والأدلة الاجتهادية بين الغلو والإنكار، ودعوى الإجماع)، وقد أشار الدكتور “جمال عطية” وهو من أبرز الداعين إلى تجديد الأصول إلى مبادرة “د. الترابي”، وأشار إليها أيضاً “أبو الفضل عبد السلام بن محمد بن عبد الكريم” في كتابه الموسوعي (التجديد والمجددون في أصول الفقه).
رابعاً: تصدى إلى المد الإلحادي والعلماني في القطاعين الطلابي والنقابي، فضلاً عن الوسط النخبوي وانتزع قيادة تلك المواقع لجماعته مع تحفظنا على الأساليب التي أتبعت.
خامساً: تعامل مع المرأة بأسلوب جديد رفع عنها قيود الفقهاء، فقامت بممارسة دورها في الحياة العامة حتى إن كثيراً من المراقبين يقدرون عضوية جماعته من النساء بحوالي 40%.
سادساً: استطاع أن يقيم مؤسسات تخدم المشروع الإسلامي بوسائل عصرية مثل منظمة الدعوة الإسلامية ومؤسساتها التي لها أثر واضح في الحياة الإسلامية.
سابعاً: استقطب كثيراً من الشباب لحركته وفكره، وعمل على تدريبهم وتأهيلهم داخلياً وخارجياً، وربط علاقاتهم بمؤسسات دولية مكنته من نشر أفكاره على مستوى العالم، وشباب الحركة الإسلامية درسوا أمهات الكتب الدينية والمرجعيات الفكرية قديمها وحديثها، ويظهر هذا التأهيل في كتاباتهم وحواراتهم، فقد استوعبوا أصول مدرستهم، وامتلكوا القدرة على التعبير عنها مع التزام صارم بالتوجيهات الصادرة من تنظيمهم.
ثامناً: أهل فريقاً إعلامياً من الكوادر استطاع أن يوجه الإعلام توجيهاً يخدم أفكارهم حتى أنهم أفلحوا في تحويل كثير من الناس عن قناعاتهم السابقة، وأقاموا مؤسسات إعلامية تعمل بمهنية عالية.
تاسعاً: التفت “الترابي” مبكراً للجانب الاقتصادي، فأنشأ مؤسسات اقتصادية تدعم نشاط الحركة وتمددت وانتشرت واستفادت من إمكانات الدولة حتى أصبح من الصعب التمييز بينهما، انتهى حديث الأمير “عبد المحمود أبو” عن الايجابيات.
نواصل…