قطعاً للاسم دلالة، فـ(بيت العنكبوت) ليس أوهن منه في البيوت، وإذا ما شبهت نظاماً ما بأنه بيت عنكبوت فإن ذلك يعني هشاشته وضعفه ووهنه وهوا نه بين الناس، وهو ما أراد أن يقود إليه تلميحاً وتصريحاً كاتب كتاب (بيت العنكبوت)- أسرار الجهاز السري للحركة الإسلامية – الأستاذ “فتحي الضو” الذي استقر منذ عدة سنوات في الولايات المتحدة الأمريكية، بعد رحلة طويلة تنقل خلالها في عدد من المهاجر والمنافي منذ لحظة الإعلان عن انقلاب الإنقاذ في الثلاثين من يونيو 1989م، واستيلاء جماعتها على السلطة، وقد كانوا يمثلون تركيبة متنوعة عرقاً وثقافة، إلا أنها كانت تجتمع تحت مظلة الجبهة القومية الإسلامية آنذاك.
و”فتحي الضو” بدأ حياته الصحفية في السودان ثم هاجر إبان الحقبة المايوية إلى دولة الكويت الشقيق وانضم إلى مجموعة اتخذت موقفاً معادياً لنظام الرئيس “نميري” وقتها، لينتقل إلى “القاهرة” بعد محاولة غزو الكويت من قبل الرئيس العراقي الراحل “صدام حسين” ليلتقي بمجموعة من الصحفيين والكُتاب والسياسيين السودانيين المناوئين لنظام الحكم في السودان. وقد بدأ بعضهم يعمل على تأسيس بنيات أساسية للمعارضة السودانية، وقد نجح المعارضون في ذلك إلى حد ما، جعل بعضهم ينتقل إلى مهاجر ومنافي جديدة كان بعضها أرض معسكرات وتدريب، وقد انتقل الأستاذ “فتحي الضو” إلى اريتريا التي عمل فيها مراسلاً لإحدى الصحف الكويتية، لكن لم يطل أمد المعارضة السودانية ولا بقاؤها في اريتريا ليهاجر “الضو” بعد ذلك هجرته الأخيرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
كتاب (بيت العنكبوت) الصادر عن دار جزيرة الورد المصرية هو أقرب إلى وثيقة اتهام تسعى لدمغ نظام الحكم في السودان بالفاشية، وانتهاك الحقوق ومصادرة الحريات والقيام بارتكاب جرائم منظمة وفق منهج محدد خلال سنوات طويلة. وقد احتفى معارضو نظام الحكم السوداني بالكاتب والكتاب، كأنما هو يفصح عما يكنون. وتيسر لي الاطلاع على الكتاب من نسخة تسللت سراً إلى البلاد، وأهداها لي صديق بإحدى دول الخليج الشقيقة. وقد تعجبت بداية كيف يستقيم لكاتب أن يرصد ويحقق ويدقق في أحداث هو بعيد عن مسرحها، وكيف له أن يعمل على تشريح جسم خفي لم يكن قريباً منه. وقد ذكر الكاتب أسباب تسمية منتوجه ذاك (بيت العنكبوت)، بأن (تلك قصة كائن غريب وسيرة بيت لن تجدوا لها مثيلاً سوى قصة أهل السودان مع بيت آخر هو جهاز أمن معتدٍ أثيم، لم تنقص أفعاله القبيحة واللا أخلاقية حبة خردل عن (بيت العنكبوت). ففي دهاليزه انتشرت رائحة الموت أيضاً.. وراجت في كواليسه قصص القتل والتنكيل والبطش، والتصقت بسيرته روايات تكريس دولة الفساد والاستبداد والشمولية. وبالطبع فإن خفافيش الظلام من المفتونين بهذا المنهج ظلوا يمارسون ذلك السلوك سنين عددا، أسوة بجنس العناكب التي ليس لها رغبة في الحياة بعد إشباع غرائزها سوى تلبية شهوة الموت، وسوم ضحاياها سوء العذاب، والتلذذ بأنينهم وآهاتهم وآلامهم بسيادية بغيضة!
الكتاب هو محاولة اختراق للهيكل التنظيمي للجهاز الخاص بالحركة الإسلامية (الأمن الشعبي)، ومحاولة لكشف أسماء مديري الإدارات المكونة له وعددها يتجاوز الخمس عشرة دائرة، ومحاولة لكشف مواقع هذا الجهاز الخفي في العاصمة والولايات، وعلاقاته الخارجية مع رصد لكل ما أسماه الكاتب بـ(جرائم القتل الفردي). باختصار الكاتب أراد أن يفضح نظام الحكم وذكر أنه حصل على ثلاثمائة وخمسة وسبعين وثيقة، لكنه قرر نشر واحد وخمسين فقط.. تتفق مع محتوياتها مع مادة الكتاب، على أن يتم استخدام ما تبقى في عمل فضائحي آخر!!
تابعت من خلال الانترنت واليوتيوب ورسائل بعض الأصدقاء حفل تدشين الكتاب في الولايات المتحدة، ثم تابعت ردود أفعال الذين شاركوا في حفل تدشينه بعد ذلك في المملكة المتحدة، فوجدت أن آراء الكثيرين منهم تكاد تتطابق مع آرائي في هذا المطبوع الذي وجد أضواء كثيفة في الساحات الإعلامية لا تتناسب مع محتواه، إلا إذا أراد ذلك أن يزايد على المعارضين وتبني ما هو أشد من مواقفهم خارج الحدود.
وذكر لي صديق مقيم في “لندن” كنت قد اتصلت عليه لأطمئن على صحة ابن السودان البار، ورجل الأعمال والخير الشيخ الدكتور “إبراهيم الطيب الريح” الذي غادر نيجيريا إلى بريطانيا للعلاج، ذكر لي ذلك الصديق أنه سيطمئنني على صحة الشيخ الدكتور، لكنه أبدى غضبه وعدم رضاه عما أسماه بتجمعات العميان وراء لافتات الغبن. ولم أفهم ما يقصد إلى أن أوضح لي أنه شهد تدشين كتاب (بيت العنكبوت)، هو ومجموعة من زملائه وأصدقائه وأنهم حزنوا وصدموا، لأن ما جاء في الكتاب لم يحمل جديداً، وأكثره اختلاق، أو قباب من الأكاذيب المبنية على طوبة حقيقة، وإن الكاتب كان مراوغاً في محاولاته للرد على أسئلة المتداخلين.. وأنه اعتذر عن المواصلة لضيق الوقت.
صديقي الطبيب تساءل بحزن وقال لي بالله ديل مناضلين؟.. والزيكم أنتم القاعدين في السودان يقولوا عليهم شنو؟.. الواحد فيهم ما اعتقلوه يوم واحد وأنتو كل مرة من معتقل لحراسة، وهم عايشين في الخارج يقبضوا بالدولار ثمن اللجوء والنضال.
لم أرد على صديقي الطبيب بعد أن استمعت إلى تعليقه وتعقيبه وتحسره على ما آل إليه الحال. وكان ردي عبارة واحدة (حسبنا الله ونعم الوكيل).