منصور الصويم

خروج نهائي

مصادفة في إحدى صالات المطارات التقيت شابا سودانيا في مقتبل العمر، كنت في طريقي إلى إحدى الدول العربية، بينما كان هو متجها إلى دولة أوروبية بعد قبوله طالبا في واحدة من جامعاتها. جمعتنا صالة الانتظار، الذي كان طويلا لكلينا، وكان من الطبيعي أن نتجاور في الجلوس ونتبادل “ونسة” خفيفة لقتل الوقت. بدا الشاب منفعلا جدا وهو يحدثني عن تفاصيل تقديمه وقبوله بالجامعة الأوروبية، معتبرا نفسه محظوظا إلى الحد البعيد، فكل أصدقائه الذين قدموا معه لم يوفقوا رغم أن بعضهم يتفوق عليه أكاديميا، وذكر أنه لن يصدق حقيقة ما حدث معه إلا بعد أن يصل إلى هذا البلد الأوروبي البعيد.
سألته:
لكن ليه أنت خايف وقلق للدرجة دي؟.
تململ في كرسيه وأخذ يتلفت يمينا ويسارا قبل أن يقول:
يا مان، أنا لو رجعت السودان تاني ح أموت.
بدا لي وهو يتحدث عن احتمالية عودته إلى السودان مرة أخرى وكأنه يحتضر فعلا، وجهه شحب فعلا، وصوته خرج واهنا، وعرق غزير نز من مسام جسده كلها. ربت على كتفه وطمأنته إن هذا لن يحدث – بمشيئة الله – فهو في حالة انتظار فقط ولن يستمر هذا طويلا قبل أن يستأنف رحلته ويتحقق حلمه بدراسة التخصص الذي يتمناه، ويحقق نجاحات وفتوحات علمية كبرى تشرفنا وتشرف بلده بإذن الله. قلت له هذا مجاملا ومشجعا لكنه فاجأني برد انفعالي عجيب، حيث قال:
دراسة مين يا عمك، وتخصص إيه، أنا حلمي أطلع من البلد دي وبس، إن شاء الله أمشي اشتغل هناك مرمطون، المهم المخارجة وبس.
تساءلت وأنا أحدق في وجهه الصغير النحيل، هل ضاقت البلد بشبابها إلى هذه الدرجة؟، هل الهروب والنأي والهجرة أصبح فعلا وواقعا هو الحلم الوحيد حتى وإن كان البديل حياة دون الطموح ولا تحقق للمرء أدنى أحلامه في العمل أو الدراسة الأكاديمية؟، هذا الشاب يبدو مستعدا لفعل أي شيء آخر سوى العودة إلى بلاده. ما الذي حدث له، بل ما الذي حدث ويحدث بالضبط؟
قطع صمتي وقال:
هذا خروج نهائي يا عمك، ما في رجوع تاني وللا حتى في تابوت.. كان مت بوصي يدفنوني هناك.
انتهى الحوار فجأة حين نادى صوت المذيع الداخلي على ركاب طائرة الشاب المهاجر. لم أسأله عن اسمه، لم أعرف بالضبط قصته الخاصة جدا، لكنها على ما يبدو مشابهة لقصص آخرين كثر يفكرون بذات طريقته.