الشوارع خالية من المارة، لم يعد الناس يخرجون ليلا بعد الساعة العاشرة إلا نادرا، أخذت دورة كاملة بالركشة في حارات الثورات القديمة دون أن أصادف أي مشوار فعدت إلى محطة “الدايات” بهدف تناول العشاء مع الرفاق ومن ثم العودة إلى البيت، فهنا أيضا قل عدد الزبائن لكثرة الرفاق المنتظرين… في البيت أخرجت رزمة الرسائل، وخطر لي – كسرا للإحباط – أن اقرأ بشكل عشوائي، فأغمضت عيني واستللت عدة أوراق وبدأت القراءة:
“لا يمكن أن أصف هذا بغير الهروب يا زينب، هروب من المدينة ومن نسائها ومن أطيافك المخاتلة أنت بالذات. خرجت إلى مكان تذبل فيه الحياة وتجف. الموت يحاصر كل شيء، حتى الأشجار والوديان والتلال. صباحا ومساء كنت استمع إلى زخات الرصاص ودوي المدافع وانفجار القنابل المرسلة من الطائرات. الحرب ساحة العدم، الوجه المثالي للقبح وتقيح الروح ومسخها. شربت من مياه ملوثة بالطحالب تسبح فيها اليرقات، وتناولت أوراق أشجار وحشرات وعقارب، ومشيت آلاف الكيلومترات راجلا أحمل على ظهري صندوقا للإسعاف، علي أساعد في مداواة جريح أو إسكات ألم مصاب. لكني مع كل إحساس بدنو الموت في دفقة رصاص، مع كل فرحة بنجاة من كمين للهلاك، مع كل عبور وهمي صوب ضفة الانتصار، مع كل هزيمة ملطخة بالدماء وأسى الانكسار؛ مع كل بشاعة الحرب ونتانتها كنت أحسني مشدودا إليك أكثر يا زينب، متعلقا بضفائر عشقك، آملا في النجاة فقط لأجلك، خائضا في وحل الحياة فقط لأجلك. غرقت في الموت فأبصرتك أكثر، فقدت المعنى فكنت ضوئي المنير وزادي الأوحد يا زينب.
على ضفة النهر والشمس لم تشرق بعد ناولني الجندي نفاش سيجارة بنقو، كانت أرجلنا تداعب الماء الساكن والطيور لتوها بدأت تصدح وتضج برفيف أجنحتها. قال لي: خذ نفسا عميقا وحدق في قلب الظلمة هناك وستراها. أخذت نفسا بعمق الوحشة وحدقت في قلب الظلمة، لم أبصرك، لكني أبصرت ظلامي.”
أكملت قراءة الأوراق، وحالة الانقباض بداخلي تزداد كثافة، لكني تساءلت متى سافر هذا الرجل وممَ كان يهرب، وأي حياة تلك التي كان يحياها متخبطا في متاهات عشقه المستحيل. تناولت كوب قهوة، ستمنعني من النوم، أعرف ذلك، لكن كيف يمكن لشخص مثلي أن ينام والأرض من تحته تتسحب صوب الحضيض؟