قامت دنيا السودانيين ولم تقعد بعد سبب مطالبة كاتبة وناشطة كويتية تدعي “فجر السعيد” للرئيس المصري “المشير عبد الفتاح السيسي” بأن يعلن ضم السودان إلى مصر، بحسبان أنه كان تابعاً في الأصل لها.
قامت الدنيا ولم تقعد وأشرعت الأقلام، وتحفزت لوحات المفاتيح في أجهزة الكمبيوتر والهواتف الذكية للرد على الكاتبة التي عرف عنها الهوس بحب الظهور المقترن بحب الذات، والاستعراض الأجوف، وهذه قطعاً حالة مرضية، تصيب الحالمين بالكمال العاجزين عن الوصول إليه، وهي حالة مشابهة لحالات كثيرة أسميناها من قبل (الجهل النشط)، ما علينا.
لا بد لنا من شكر الكاتبة النشطة دون علم “فجر السعيد”، لأنها فجرت براكين الغضب في نفوس كثيرين من السودانيين، وجعلتهم يتجهون نحو التزود بالمعارف التاريخية والاجتماعية القديمة التي تؤكد على استقلال السودان على مر العهود عن مصر إلا في فترات تبادلت فيها الأسر القديمة في كل من القطرين الشقيقين حكم شطري وادي النيل.. وحسناً فعل الكثيرون عندما تعرضوا لشخص الكاتبة الناشطة (من غير علم) دون أن يتعرضوا لبلادها دولة الكويت الشقيقة التي يكن لها السودانيون أعظم مشاعر الحب والتقدير، وهي مشاعر نحسب أنها متبادلة، وذلك من واقع أكثر من زيارة قمنا بها إلى الكويت الشقيق، وتشرفنا في إحداها بلقاء عابر مع سمو الشيخ “صباح الأحمد الجابر الصباح” أمير دولة الكويت الشقيقة، وأحد بناة نهضتها الحديثة، وحماة أرضها الطاهرة من دنس أي عدوان خارجي.
ما كتبته “فجر السعيد” أعاد الكثيرين من أبنائنا وبناتنا إلى تقليب صفحات تاريخ السودان، ورد بعضهم بمدفعية ثقيلة على الكاتبة، وهي في اعتقادنا لا تستحق ذلك ولا تحتمله، فكأنما الذين أمطروها بالردود النارية حكموا على ذبابة بالإعدام رمياً بالرصاص.
تلقيت رسالة من أحد أبنائنا الذين يدرسون التاريخ في إحدى الجامعات السودانية يطالب فيها بأن تعيد الدولة النظر في المقررات المدرسية الخاصة بمادة تاريخ السودان، مؤكداً وفرة المراجع والحجج والتقارير التي تؤكد على أن بلادنا كانت على الدوام مستقلة بالفعل عن مصر، وأن مصر نفسها كانت تخضع لحكم بريطانيا، مشيراً إلى تقرير مهم أعدته لجنة أعدتها “لندن” برئاسة اللورد “ملنر” للنظر في ما أسمته أسباب الاضطرابات الأخيرة في مصر – تعني ثورة 1919م، وقد وصلت اللجنة إلى “القاهرة” في (ديسمبر) من ذلك العام وبقيت في مصر حتى (مارس) من عام 1920م، وقد زار اثنان من أعضائها هما الجنرال “سيرجون ماكسويل” وسير “أوين توماس” السودان وأمضيا فيه عدة أسابيع لاستكشاف الوضع به وآراء حكومته.. وقد جاء في الجزء الخاص بالسودان والذي قدم له اللورد “ملنر” بخطاب إلى رئيس الوزراء المصري “عدلي يكن” باشا في الثامن عشر من (أغسطس) عام 1920م، ما يلي: “ليس بين أجزاء المذكرة التي أنا مرسلها إليك الآن جزء يقصد تطبيقه على السودان كما هو ظاهر من المذكرة نفسها، وأننا لم نناقش موضوع السودان فقط مع زغلول باشا وأصحابه – يقصد سعد زغلول- لأن هذا الموضوع خارج بالكلية عن دائرة الاتفاق المقصود لمصر، فإن البلدين يختلفان اختلافاً عظيماً في أحوالهما، ونحن نرى أن البحث في كل منهما يجب أن يكون عن وجه مختلف عن وجه البحث في الآخر”.
ويؤكد تقرير اللجنة على إدراك بريطانيا للمصالح الحيوية لمصر في إيراد الماء الذي يصل إليها مروراً بالسودان.
لجنة “ملنر” وجدت رفضاً لتوصياتها من “سعد باشا زغلول” والوفد المصري، وفي عام 1921م عقد “عدلي باشا” رئيس الوزراء المصري الجديد، مفاوضات أخرى مع بريطانيا، لكنها لم تسفر عن اتفاق وظلت مصر تتمسك بحقها في السيادة على السودان دون منازع، إذ أن غزو “كتشنر” للبلاد تم باسمها ولمصلحتها.
بعث إلينا ابننا “مهيد تاج الأصفياء” دارس التاريخ بمجموعة من المعلومات تضمنت رأي السيد “علي الميرغني” في تبعية السودان لمصر، مؤكداً على أن السيد “الميرغني” والإمام “عبد الرحمن المهدي” و”الشريف الهندي” تطابقت آراؤهم من خلال محادثات غير رسمية مع حاكم عام السودان في الثالث والعشرين من (فبراير) عام 1919م، حول رغبتهم الأكيدة في أن تتخذ الحكومة البريطانية خطأ أكثر حزماً لتأكيد مستقبل السودان تحت السيطرة البريطانية بعيداً عن أي هيمنة أخرى(!)
أعدت قراءة ما بعث به إلينا الابن “مهيد” وما نشرته فجر السعيد” وثورة الأسافير التي أشعلها السودانيون، وعدت لبعض الوثائق فتيقنت بأن إعادة كتابة التاريخ مهمة ضرورية وعاجلة.