* النقاش الثر.. التحليل العميق.. الحوار الموضوعي.. التفنيد الإحصائي.. النماذج المتعددة.. المداخلات النابضة؛ وغيرها من فواتح شهية الكلام وعناصر الجذب للإصغاء كانت حاضرة مساء أمس في مجموعة (قضايا الفنون) على (الواتساب) التي تضم نخبة مصطفاة ومختارة بعناية فائقة على عكس كثير من المجموعات التي غالباً ما يسيطر عليها التعصب لرأي واحد؛ والتخندق خلف وجهة نظر لا تقبل القسمة على الحوار.. سعدت جداً لأن المقال الذي نشرناه عبر هذه المساحة أمس عن الثنائي الغنائي الشقيق (ياسين وخنساء) والتغير الاجتماعي في ظاهرتهما احتل مساحة مقدرة وزمناً طويلاً، وكانت التحليلات عميقة وفتحت دروباً تسكنها الألغام لم تكن معبدة من قبل للعبور عبر مركبة أو للسير على الأقدام..!
* من المداخلات التي استوقفتني ما قاله د. محمد الفاتح العوض عن (الثنائيات الغنائية) وأسباب تلاشيها؛ وسر غيابها عن المشهد؛ ولم ينس العوض في معرض سرده وتحليله تحميل الصحافة أيضاً جزءا من مسؤولية عدم الانتباه لهذا التلاشي الذي يؤدي إلى انقراض شكل فني مختلف ولونيات خاصة لأصوات لا يصلح لأحدها أن يغني بمفرده؛ ولكنها متى ما شكلت (حنجرة واحدة) جذبت اهتمام الناس وشنفت الآذان؛ وأطربت الأبدان، واحتلت الوجدان.
* لم يكن صديقنا د. محمد الفاتح العوض دقيقاً في حديثه عن عدم اهتمام الصحافة بتسليط الضوء على ظاهرة تلاشي (الثنائيات الغنائية) إن كان عبر التحقيقات أو التقارير أو المقالات؛ وسبق لنا عبر هذه المساحة الكتابة حول هذا الموضوع في أكثر من تناول ومناسبة، لم يكن مرض الفنان المرهف السني الضوي آخرها؛ ومن قبل ذلك كانت وقفة بتأنٍ مع ذلك الغياب المتواصل ونحن نردد: (والله وحدوا بينا البارحونا وراحوا.. شالوا من وادينا بهجتو وأفراحو.. القبيل يا حليلهم يا حليل الراحو).
* طرحنا من قبل سؤالاً مباشراً: هل انتهى عصر (الثنائيات الغنائية)؟، ولماذا لم نسمع ثنائياً استمرت تجربته الفنية لفترة زمنية طويلة بعد (ثنائي العاصمة)؟
– كانت الإجابة باختصار شديد أن الستار أُسدل على الثنائيات يوم نعى الناعي الفنان (إبراهيم أبو دية) ذلكم الرجل المبدع الأسمر، قصير القامة، رفيع المكانة، عالي القيمة، والمسكون موهبة وتحدياً وإصراراً وعزيمة..!!
* عرفنا أبو دية صاحب الصوت الأخاذ وهو يقف بجوار رفيق عمره ودربه ونضاله الفنان العلامة والملحن القامة السني الضوي ليكونا معا (ثنائي العاصمة) – مع العلم أن المشوار بدأ ثلاثياً برفقة الحويج قبل أن يخطفه الموت – فبات السني وأبو دية ثنائياً متناغماً متجانساً متوائماً لا يعرف الاختلاف ولا يجيد الحديث بلغة الخلاف..!!
* رحل أبو دية تاركاً داخل قلب السني حزناً لم تجف بحوره بعد؛ ومخلفاً جرحاً لا يندمل، وفراغاً لا يسد، وفقداً لا يعوض، وأغنيات لا تموت، ومشواراً فنياً طويلاً يستعصي على النسيان وأعمالاً راسخة لا تعرف الذوبان..!
* يوم رحيل أبو دية نعى الناعي الثنائيات الغنائية، فقد جاءت من بعد (ثنائي العاصمة) تجارب ومحاولات لأسماء اختارت (الغناء الثنائي)، ولكنها للأسف إما تبخرت سريعاً أو استمرت (اسمياً) دون أن يكون لها منتوج يذكر أو أعمال يحفظها الناس عن ظهر قلب.. رحيل أبو دية أغلق التجربة بالشمع الأحمر، وفضّل السني الضوي – متعه الله بالصحة والعافية – العزلة مع أحزانه وألحانه وقام بدعم كثير من المواهب ورعاية عدد مقدر من الأسماء وأعلن اعتزاله الغناء..!!
* هل انتهى عصر الغناء الثنائي؟، ويا ترى ما هي أسباب ذاك التلاشي المبكر؟.. سؤال مهم؛ والإجابة عنه متشعبة لأنه خلافاً لعدم وجود أصوات متناغمة تصلح للغناء ثنائياً أكثر من صلاحية كل صوت منها للغناء بمفرده فإن المغني الآن لم يعد يطيق نفسه، فكيف يتحمل آخر بجواره يرافقه كظله ويغني معه طيلة حياته؟.. ففي ظل ما نراه من متغيرات اجتماعية الثنائية الدائمة أصبحت فكرة لا تطاق و”الناس بقت ما عندها قدرة على التحمل وطولة بال وأخلاق”..!!
أنفاس متقطعة
* (ثنائي الدبيبة) قدما أعمالاً لم تجد الذيوع والانتشار، كما أن تجربة (ثنائي الجزيرة) لم تمد جسر التواصل مع الناس، في الوقت الذي نسي فيه الناس (ثنائي الحتانة) بعد طرحهما لألبوم بالأسواق حقق نسبة توزيع عالية، وتبخر وجودهما بعده بفترة ليست بالطويلة..!
* انتهت رحلة (تومات خيري) في الغناء الثنائي قبل أن تبدأ، ولا نعرف مصير (تومات مدني) و(تومات شندي) بعد..!!
نفس أخير
* وخلف محجوب سراج نردد:
عزّ علي فراقك وفاضت بي شجوني.. ياما اشتقت ليك وياما بكت عيوني