سئل الفيتوري في أحد لقاءاته مع الإعلام العربي: من هو الأبرع في فن الإلقاء الشعري..؟ فقال: «لولا هذا الصوت الأجش، لقلتُ أنا »..! قال الفيتوري في قصيده:«يا سحاباً من اللحم والعظم / يمخر في حلم عاصف لا يُطاق.. كلّما غافلتك مرايا العيون، تكسرت فوق زجاج العِناق».. قال هذا، ولكنني على عقيدة بأن محمد مفتاح الفيتوري كان شاعِراً لـ «الرِّياح»، التي تنسرب طليقة، كما الحرية: «وتسأل طاحونة الريح عنك/ كأنك لم تك يوماً هناك/ كأن لم تكن قط يوماً هناك«.. و هو»: ونداءً عاطِراً تعدو به الريحُ فتختال الهوينى»..! الفيتوري هو شاعر الحداثة، الذي حمل عبء الدفاع عن الوِتر الافريقي، بلسانٍ عربيٍ مبين، وقد جسّد موقفه الثوري المناهض للاستعمار للدكتاتوريات، بحس صوفي ينبع من وعيه وثقافته الضاربة عمق التراث الإسلامي.. درس الفيتوري في كلية الملك فؤاد الاول بالقاهرة، وهناك التقى بكوكبة من مبدعي جيله من السودانيين، جيلي عبد الرحمن، حسن عباس صبحي، تاج السر الحسن، محي الدين فارس.. وهؤلاء هم الذين نقلوا صوت السودان إلى ما وراء الحدود، من بعد تجربة معاوية نور الفريدة، الذي سبقهم في التغريد، وحيداً في ذلك العمق العربي.. وصفه الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي بأنه «يمتلك إبداعاً لايعترف بقوانين الرتابة».. وقال عنه الدكتور جابر عصفور، إن الفيتوري في أول انتماءاته التي لا تمحوها الهويات البديلة إبناً للسودان، فكل سوداني بالفطرة شاعر صوفي يستشعر روح المعاناة الروحية، مما يجعل لهذه الضراعة قدراً كبيراً من العمومية والشيوع».. احتمل الفيتوري الكثير من الأذى بسبب مواقفه السياسية، خاصة من زاوية علاقته بالقذافي.. ولكن الفيتوري لم يكن طارئاً على ليبيا، إذ هو في شخصه، كأنه نقطة التقاء الجغرافيا والتاريخ، في فيافي الصحراء الكبرى.. رثى الفيتوري الزعيم عبد الخالق محجوب سكرتير الحزب الشيوعي، فكتب هذه الأبيات التي تحفل بها مجالس المقاومة الفلسطينية وتتخذها أيقونة :» أعلم سر احتكام الطغاة إلى البندقية/ لا خائفاً: إن صوتي مشنقة للطغاة جميعاً / لا نادماً: أن روحي مثقلةٌ بالغضب.. / كل طاغية صنم.. دمية من خشب.. يقول المفكر الراحل محمود أمين العالم، «إن الفيتوري في بداية حياته كان خطابه الشعري ذو طابع غنائي، وقصائده تثب أحياناً حد الخطابية، وقدراته على تجسيد وإبراز القسمات لا تتعدى حدود الصور الجزئية، وكانت الرؤى والصور والشفافة بالانفعالات والمشاعر المتحفزة، ثم أخذت هذه الغنائية تخف شيئاً فشيئاً فلم تعد القيمة الأولى للتعبير، بل أصبحت أداة الدلالة، واختفت الخطابية إلا في بعض المقاطع الصغيرة في مرحلته الأخيرة، حينما تعلو أصوات أفريقيا ويشتد الحنين الجارف إلى الخلاص.. » كانت سيدتي الشمس تموِّج عينيها فوق الغابات/ وتغني لحقول الكاكاو الممتدة والشلالات / وقوارب صيادين مساكين حزاني الضحكات/ ونساء علّقهن إله الجوع على طول الطرقات»..! قال محمد مفتاح الفيتوري هذا الحديث العذب ، ثم « وسّد رأسه.. مضى في سبيل الأولين والآخرين، وبقي صوته «الأجش» أبدياً صادِحاً، مزلزلاً، يخيف الطغاة.. رحمة الله على الفيتوري، الذي تسلّق أغصان موته، أو كما قال: «و تسلقت أغصان موتي، لأنك يا سيد الذات تشبه ذاتك، في ملكوت صفاتك، في كل حال.. وأنت تكبلني في صلاتي، وترفع عني الغطاء»..! رحم الله الفيتوري الذي قال:«في حضرة من أهوى، عبثت بي الأشواق.. حدّقتُ بلا وجهٍ ورقصتُ بِلا ساق، وزحمتُ براياتي وطبولي الآفاق، عشقي يُفني عِشقي، وفنائيّ استغراق»..!