اليوم وفي احد صالات المعاملات لاجراء ما كانت الجموع حاشدة ، وفيما رايت صرت اكثر مناصرة للراي القائل بان معدل الهجرة للخارج جد مرتفع ، وجدت سودانيين من كل الاعمار ، كهولا ، شبابا ، صبية ، حتي ان المكان حوي اطفالا اثاروا حيوية بين الحاضرين ، الاجانب لمحت منهم فوجا ، ارترييون ، باكستان ، وبعض شوام ! جلست في انتظار دوري ارجو قدوم حيني ، الصالة المكتظة للامانة اعدت بشكل يستحق مدح السلطات ، اذ دعمت بمبردات هواء منعشة واقيمت عليها مقاعد بنظام مريح مع نظافة معتبرة وان يعاب عليها ضيق لم يراعي اعداد طالبي الخدمة وشاشة تلفاز اسودت الا من شريط يتراقص بانجليزية معلنا الا اشارة ! برودة المكان وحسن النظام اغرت الحاضرين باقامة مجلس أنس لم يخرج عن شواغل الناس المعتادة هذه الايام عن غلاء وقليل سياسة وبعض نجوي بامال المغادرين ، تنصت ، راقبت ، مارست فضول الصحفي وعينه اللاقطة ، حضر عجوز يتوكأ بالكاد يمشي رفقة سيدة اقل منه سنا لكنها شاخت ، اظنه فوق الثمانين او تزيد ، لم يكن معهما ابن او رفيق يسند عجزهما ، تلفت العجوز باعين فاترة ، ارتكز علي عصاة يقوم عليها ، تلفت حائرا اذ لم يكن ثمة مقعد خال ، لحظات كنا وقوفا خمس او ست ، تسابق ابناءكم فقط للتطوع بالافساح ،اقول( فقط) لجهة ان لم ينهض غيرهم ، حتي من هم من جنسية العجوز المتداعي ، الذي تخطفه اخوانكم ورفيقته حتي تعثروا لاجلاسهم ، كان موظف الخزنة بطئ الحركة كثير الدخول والخروج في عرينه ، يطلق صوتا باسم صاحب المعاملة فيقول الحضور للناجي باكتمال اجراءه (حمدا لله علي السلامة) فينهض (المندوه) للنافذة يتمايل طربا تحس به يمشي في خيلاء كالطيران ! اسم اثر اخر ، رجل تبع امراة ، اجنبي بعد مواطن مضت القائمة ، حتي وصل للنافذة شاب نحيل وقف يهمس مع المحاسب ، اخرج محفظته عد نقوده ثم علاه الجزع والحيرة ، ملامحه التي كانت تشير لطامة تتقاطر عنه لفتت انظار الناس ، مد رأسه مرة اخري حتي التقمته النافذة يجادل ، بدا جليا ان المحاسب وكحال غالب اقرانه لا يملك حق العفو والتخفيض ، فالفتي ماله ناقص ، ثم سمعنا (تعال بكره واكمل ) قالها المحاسب لينهي النقاش ويطلب الاسم التالي ، تحت بند (بعدو ) ، تراجع الفتي وغشاء من اليأس يلفه ، وضع يديه علي راسه ثم اطرق ؛ قبل ان يهم بالانصراف ، حينها قام من خلفي شاب في نفس عمره ، جمعه معنا رابط الاجراء وغرض المعاملة والصالة المكيفة ، هب مستوقفا نظيره المنصرف (مالك في شنو) فرد الثاني ملطفا المشهد ان لا شئ ، اخطأت حساباتي ونقص مالي عن صدقة اكمال حظي ، قال الاول وهو يشد رفيقه الذي اثق انه لا يعرفه ، لا يحمعهما سوي حجية مشروعية السمرة والميلاد في يناير ، ليسوا اقارب قطعا وحتما عد للنافذة سادفع عنك ما عليك ، رفض كبير يتعالي وتمنع ، فيرد الملح والله ما تمرق ليه ولشنو يا زول فينهض اخر وينضم لذات الالحاح بان يعود الفتي للنافذة وانه سيدفع كذلك ما نقص ، الموقف ولا اروج لفرية اسفيرية اثار حيرة اجانب حاضرين ، تابعوا النقاش بفضول يتلظي ! دقائق وزف الفتي صاحب المعاملة المرفوضة للنافذة ، كأنما هو عريس يساق لتلة عرس ، كان هو ورفاقه تقريبا في سن واحدة اظنهم راجح قياس دون (20) او فوقها بعامين او ثلاثة لا تزيد ، اكثروا من الانس والضحك ، ظننتهم انا وليس ذاك الاجنبي اولاد دفعة او اصحاب حي ودراسة ، ولم يكونوا كذلك ، كانوا ابناء وجيل هذه اللحظة ، معرفة الظرف والموقف والمكان ، تأملت ملامحهم النضيرة ، مشاغباتهم ، جريان اعينهم علي هواتفهم وتفرقهم بعد لحظات كل الي وجهة ومدينة وقبيلة ، يمشون تحت حالة سودانية تجعل حتي شظف احوالنا عيشا رغيدا ، كل يوم اطمئن ان هذا الشعب رغم المتغيرات وبعض غبار التحولات لا يزال … حلو … وسوداني جدا … شعب يحير
محمد حامد جمعة