عبد الله الشيخ : التغيير ممكن بقليل من الخيال..!

الغربة صعبة، لكنها تهييء فرصة أكبر للتأمل.. من زواياها البعيدة يرى الغريب ما لا يراه أهل الداخل وهم غارقون في هذه المعمعة «الوطنية». الزميل الصحفي إبراهيم علي إبراهيم، جنّح في الفضاء كمن يهرب من انسداد أفق الداخل، هاجر إلى رحابة مبتغاة في الدنيا الجديدة، ومن هناك، من منفاه الاختياري ظل مشغولاً أكثر بما خلّفه وراءه.. فلا تمر مناسبة إلا وعبّر عن تفاعله مع أوجاعنا هنا في السودان.. في السطور التالية يكتب مؤكداً على أنه لم يزل يتأبط حلمه في الإصلاحي.. كلماته أعادت إلى ذهني ما كان يسميه السيد زين العابدين الهندي عليه الرحمة، بالثورة الانسيابية، تلك الثورة التي بشّر بها في أخريات عهد الديمقراطية الثالثة، ثم تبدد بعد ذلك كل شيء في الهواء.
يقول إبراهيم علي في رسالته: «يشغلني حال غالبية القرى في بلادنا، فالناس في تلك الأصقاع النائية عن الخرطوم ينتظرون الذي لن يأتي.. قرأنا من قبل كيف أهملت الحكومات المتعاقبة تنمية الريف، ورأينا كيف أن غالبية أبناء القرى السودانية، الذين فيض الله لهم أن يتعلموا ويرتقوا في المراتب.. رأينا كيف أنهم هجروا قراهم وأداروا ظهورهم لمراتع الصبا، وقد أنعم الله عليهم بالمال.. وبعد أن هبطت عليهم الثروات.. تلك القرى الوادعة المنسية، تحتاج لثورة خاصة بها.. ثورة تقلب الموازين، وتفرض على المناطق الحضرية الانتباه.. والتغيير يبدأ من داخل تلك القرى.. التغيير يبدأ من تبديل أنماط العمارة واستبداله بأنساق جديدة تصطحب إرث الريف السوداني وتستفيد مما هو متاح من مواد بناء، مع إضفاء لمسات جمالية حضرية حتى تصبح القرى السودانية ذات طابع خاص يجعلها قبلة للزوار.. قد يرى البعض في ذلك مزحة، أو شيئاً خيالياً، لكن هذا أمر ممكن، فمثلما اعتدنا على رواكيب الخيش، نستطيع تخليق شكل آخر لمساكننا في الريف.. فبيوت الخيش نفسها، قد كانت فكرة جديدة في الماضي.. كانت من أمهات الخيال، وكل ما تحقق على هذه الأرض قد كان فكرة.. قُرانا الممتدة في كل بقاع الوطن، يمكن أن تعتمد على النفير كفكرة أصيلة مغروسة في جذرنا الأخلاقي، وهذا النفير كثقافة تكافلية جماعية يحتاج إلى قليل من التنظيم والتخطيط حتى يمكن الاستفادة القصوى من سواعد الشباب الفتية.. ليكن النفير أولاً تفكيراً جماعياً يستهدف رصد الإمكانات المتاحة في بيئة الريف التي يمكن تسخيرها في تحقيق التغيير.. ليتفاكر الشباب أولاً حول إمكانية الاستفادة من الموارد المتاحة في قراهم وما حولها من غابات و زروع.. من الممكن أن يبدأ النفير في كل قرية بعمل دؤوب من أجل تشجير شوارع القرية وتنجيل الحدائق، وإصلاح بيئة المدارس.. أشعر بالحرج حينما أمُر ببعض القرى التي تقع على ضفاف النيل دونما أجد فيها شجراً أخضر..! ماذا يفعل الشباب؟.. ألا يستطيعون اقتطاع ساعتين كل صباح إبان العطلة الدراسية لتوفير مياه الشرب والري لقريتهم؟.. لماذا لا ننشيء مصائد للأسماك؟.. لماذا لا نعمل على تربية النحل في قرانا؟.. لِمَ لا نقيم مزارع استثمارية للحدائق والزهور والورود؟.. مزارع التوابل؟.. لماذا لا نفكر في حل مشكلة الطماطم؟.. فقط الطماطم؟.. هل يعقل أن يستورد شعب السودان الطماطم من أثيوبيا وهي كما أخبرني أحد خبراء الأبحاث الزراعية.. بها نسب عالية من الكيماويات.
إصلاح حال القرى في السودان ممكن، بقليل من الخيال.. قليل من العمل.. وكثير من الهمة.. على أهالي القرى ألّا ينتظروا الحكومات.. فهي «حيكومات» كما قال الراحل العزيز حميد: حيكومات تجي وحيكومات تغور.. هِم يا الفنجري.

Exit mobile version