ترجيحات السياسة واختلالات الاقتصاد في تقرير الإكونوميست عن السودان
رسم التقرير السنوي الذي أصدرته وحدة أبحاث (الإكونوميست) البريطانية عن الاقتصاد السوداني صورة متباينة ومضطربة تجمع بين الاستقرار السياسي رغم المظاهرات والاحتجاجات وارتفاع مستويات غلاء المعيشة، وبين ارتفاع الناتج المحلي الي حوال ٤٪ خلال العام ٢٠١٧، و بقاء الصعوبات التي تواجه الاقتصاد لا سيما التوقعات بإرتفاع نسبة التضخم من ١٧٪ للعام الجاري الي ١٨٪ للعام ٢٠١٧.
يحظي تقرير ( الإكونوميست) السنوي عن السودان بمصداقية عالية نسبة لمقاربته للواقع السياسي والاقتصادي بصورة علمية مجردة دون ان تداخله اي تلوينات سياسية او ايدلوجية تفقده الصفة العلمية والموضوعية، وهذا ما يجعل الكثير من الدول والمؤسسات الدولية تعتمد عليه في قراءة الواقع الداخلي في السودان.
وقد خيب التقرير آمال الناشطين والسياسيين المنادين بالتغيير عن طريق تحريك الشارع والجامعات بالمظاهرات والاحتجاج علي الوضع الاقتصادي المتدهور وغلاء المعيشة وارتفاع أسعار الصرف للعملات الأجنبية في السوق الموازي ، وحسب مؤشرات التقرير فإن هذه الاحتجاجات والتي تصاعدت اخيراً عقب مقتل طالب جامعة كردفان والأهلية ستخلق بعض الاضطرابات مع ارتفاع شعارات تغيير النظام ، لكن لن تؤدي الي إسقاط الحكومة لعدة أسباب منها وسائل المكافحة الأمنية، وعدم وجود معارضة فاعلة تستغل هذه الأحداث والاحتجاجات و الوصول بها الي غاياتها ، وكذلك الوعي بنموذج التغيير الشعبي وفشل ثورات الربيع العربي وما انتهت اليه الأحداث من فوضي ودماء وحروب أهلية في سوريا، وليبيا واليمن وغيرها.
تدرك النخب والطبقات المتعلمة في السودان رغم تطلعاتها القوية للإصلاح والتغيير ان مغامرات الثورة الشعبية لن تجد التأييد الكاسح لتخوفات الانفلات الأمني والفوضي علي غرار النموذج الليبي والسوري ، مع ارتفاع شعارات حركات قوي الهامش التي لا تملك تصورا للحكم وإدارة الدولة لكن تعتمل فيها نزعة التشفي السياسي والانتقام الاثني واشعال الفوضي، وهذا ما تدركه جموع الشعب السوداني التي تتطلع الي الاصلاح و الانتقال السياسي المتدرج عن طريق التفاوض والتسويات والمصالحات والحوار الوطني.
ويؤكد تقرير الإيكونوميست ان موارد القوة ما تزال بيد الدولة والحكومة ، ولكن ستظل حركات التمرد تشكل إزعاجا متقطعا للحكومة رغم الانتصارات الحاسمة في جبل مرة واستعادة الحكومة للمبادرة العسكرية والتقدم في محور جنوب كردفان. وتوقع التقرير من ناحية اخري ان يصحب عملية نقل السلطة في نهاية الفترة الرئاسية الراهنة عام ٢٠٢٠ بعض الاضطرابات ، خاصة مع اعلان الرئيس البشير انه لا يرغب في خوض الانتخابات مرة اخري بعد نهاية فترة رئاسته الحالية. وقال التقرير انه لا يوجد ما يمنع البشير من اعادة ترشيح نفسه مرة اخري شريطة توفر رغبته الشخصية وعدم وجود معوقات صحية، سيما مع غياب سيناريو التوريث لعدم تمتعه بالأولاد ، وأشار التقرير ان منفذ التغيير الوحيد المتوقع رغم ضعف احتمالاته هي القوات المسلحة. وتوقع التقرير تضعضع وانحسار قوة المؤتمر الشعبي عقب وفاة زعيمه الشيخ حسن الترابي ، مع وجود مؤشرات قوية ان يواصل حزب المؤتمر الحاكم الحصول علي الأغلبية البرلمانية في الانتخابات القادمة .
حسب المؤشرات التي ابرزها التقرير سينخفض حجم التضخم الي حوالي ١٠٪ خلال الثلاث أعوام القادمة لزيادة انتاج الغذاء من الداخل، وتناقص مؤثرات طاهرة (النينو) علي السودان وما يرتبط بها من اتساع في رقعة الجفاف و تزايد معدلات الهجرة ومهددات الأمن الغذائي.
كما يتوقع ان يشهد انتاج البترول ارتفاعا طفيفا ، يصاحبه ارتفاع في أسعار الذهب العالمية. ولكن يضعف التقرير في الوقت نفسه من اي آمال مرجوة لزيادة حجم التدفقات المالية الي السودان من دول الخليج العربي للتحديات التي تواجه الاقتصاد السعودي مع انخفاض أسعار النفط، ولكن سيظل العامل الأكبر الذي يحول دون الانطلاق الأمثل بالاقتصاد السوداني هو العقوبات الامريكية التي تقف حجر عثرة امام تدفق أموال الاستثمارات الخارجية خاصة في قطاع التعدين والنفط.
وهناك مؤشرات قوية ان الرئيس اوباما ربما يتخذ قرارا شجاعا وقويًّا في نهاية فترته الرئاسية عندما يحين موعد تجديد العقوبات في أكتوبر القادم، ولكن الكتل التاريخية المعادية للسودان تواصل الضغوط لتفويت هذه الفرصة التاريخية وترحيل التركة السياسية للسودان الي الرئيس الامريكي القادم.
وهو السيناريو الذي تعمل عليه الحركة الشعبية بعد تكاثف الضغوط الدولية عليها في اجتماع باريس الأسبوع الماضي خاصة من قبل المبعوث الخاص دونالد بوث الذي أبدي تبرما واضحا من مماطلات الحركة الشعبية، وحاول أصدقاء الحركة من أمثال جون بريندقاست تقديم مقترحات سياسية جديدة لإجهاض نبرة النقاش الواقعي داخل الادارة في نهاية عهد الرئيس اوباما، ونقل الملف للإدارة الجديدة. ويأمل ياسر عرمان بتغير سياسة واشنطون اذا فازت هيلاري كلنتون بمقعد الرئاسة لسهولة ارتكازها علي إرث سياسة زوجها بل كلنتون تجاه السودان مع توفر الخبراء داخل الحزب الديمقراطي الذين اشرفوا علي صياغة تلك السياسات.
هناك عامل مهم أغفله تقرير الإكونوميست لعامل التوقيت وهو اعلان اعادة هيكلة الاقتصاد السعودي وفقا لرؤية ٢٠٣٠ حيث أكد الامير محمد بن سلمان ان السودان سيكون احد محاور الاستراتيجية السعودية في الاستثمارات وتحقيق الأمن الغذائي ورفع معدل الصادرات السعودية الي أوروبا. وهذا يعني ان حجم التدفقات المالية والاستثمارات الأجنبية المباشرة ستسهم في النهوض بالاقتصاد السوداني من حيث التشغيل وتقليل نسبة البطالة بين الشباب و توفير النقد الأجنبي وزيادة حجم الإنشاءات والبنيات الاساسية.
لكن من التحديات التي تواجه السودان في جذب هذه الاستثمارات هي ملكية الاراضي والبيروقراطية والخدمات. ويشير التقرير ايضا الي زيادة عجز الميزانية ليصل الي ٤٪ من جملة الناتج المحلي، وهي نسبة متوسطة مقارنة مع العجز الذي تعاني منه معظم دول العالم الثالث. ويقفز الي الواجهة تحدٍ آخر وهو عدم قدرة بنك السودان علي اتباع سياسة نقدية فاعلة وصارمة لوجود معظم معاملات بيع العملات خارج النظام المصرفي، هذا فضلا عن ضعف مردود إصدار شهادات وصكوك لجذب العملة الحرة وتحريك منظومة التعامل الداخلي بين البنوك للاحتفاظ بمعدلات معقولة من احتياطات النقد الأجنبي.
يؤكد التقرير بصورة غير مباشرة ان الاقتصاد السوداني خرج من شبح الافلاس والانهيار الكلي رغم التحديات الكبيرة التي يواجهها، ومع ذلك يبقي الاقتصاد هو المهدد الاول للامن القومي مع انحسار التهديدات العسكرية. وحسب المؤشرات الواردة فإن الوضع سيبقي علي ما هو عليه دون تحولات درامية تذكر ، لكن تكمن الخطورة في التآكل الداخلي نتيجة لطول امد إجراءات التقشف، وارتفاع معدلات غلاء المعيشة ، والتضخم، واتساع قاعدة الطبقة المسحوقة. ولعل المؤشر الاهم هو اتساع الفوارق الطبقية حيث سيزداد الأغنياء غني والفقراء فقرا. وهي ظاهرة ليست مختصة بالسودان ولكنها أصبحت ظاهرة عالمية مقلقة حيث سيطر ١٪ من الاثرياء في الولايات المتحدة علي ٩٩٪ من الاقتصاد الامريكي.
وقد أفردت مجلة ( الشئون الخارجية) الشهيرة عددا خاصا عن هذه الظاهرة استكتبت لها ابرز المفكرين الاقتصاديين، الذي اجمع معظمهم علي ان انعدام المساواة تعتبر ظاهرة ذات ارتباط عضوي بالنظام الرأسمالي و افرازات العولمة. ويقول الاقتصادي الفرنسي توماس بكتي ان تاريخ الاقتصاد العالمي يشير الي ان التفاوت الاقتصادي ارتبط بعد الإقطاع بالثورة الصناعية في أوروبا، لكن مع تضييق الفوارق بين كتل الجماهير والنخب وبروز تنظيمات عمالية قوية، تبنت الدول نمط اقتصاد دولة الرفاه التي قدمت الخدمات والضمان الصحي والاجتماعي، ووفرت الرعاية للشرائح الضعيفة . لكن عادت تلك الفوارق للاتساع مرة اخري بفضل اقتصاد ما بعد الثورة الصناعية حيث ازداد الأغنياء غنيً والفقراء فقراً.
وتمثل هذه الظاهرة اكبر مهددات النسيج الاجتماعي في السودان ، وبؤرة الاضطرابات المُحتملة في ظل اقتصاد نجح في الخروج من شبح الافلاس والانهيار لكنه عاجز عن مخاطبة اختلالات الفقر في المجتمع وان يتبني آلية اكثر فعالية في توزيع الموارد والثروات للمحافظة علي التوازن التاريخي للطبقات الاجتماعية في السودان. لكن تراكم الثروات في أيدي قلة تزداد غني واخري مسحوقة تزداد فقرا ستكون احد عوامل الثورة الاجتماعية الكامنة ، مما يتوجب ان تكون هذه الاختلالات في قمة هرم اهتمامات الطبقة السياسية باعتبار ان الاقتصاد هو اكبر مهددات الأمن القومي في الوقت الراهن وليس التمرد العسكري.
بقلم
خالد موسي دفع الله
سودانايل