عبد المنعم مختار : الجراب أصبح فاضي

كثيرون يُعبرون بصمتهم حيال قضايا تستلزم النطق بالمعالجة.. والصراعات التي تحيط بالوسط الفني عموماً تجعله قنبلة قابلة للانفجار في أي وقت.. الشعراء يتخاصمون ويتركون القصائد تئن داخل البطون والعيون.. والفنانون يتشاكسون في أغنية يتراجع دمها تحت المعدل والنتاج صراخ يكسر الليل بالضجيج.. والدراما اغتالتها المحاور والنزاعات فماتت النصوص في طور التجارب النظرية .. ولأن الصمت على قلوب المثقفاتية بعد أن اشبعونا سرداً ونقداً.. وحقداً.
الصمت احياناً يكون قيمة يستدعيها الزعيق بل يكون وجهة نظر مهما تعاظمت سلبياته فإنه أبلغ تعبيراً إيجابيا يهزم (القحة) ويتصالح مع (صمة الخشم) في هذا الزمن الكئيب.
الصراع الذي يحتدم في المنابر والصحف ماهو إلا انعكاسة تكشف بعمق أن (الجراب أصبح فاضي).. وأن الدواخل المفعمة بالإبداع قد صادرتها (الغفلة) لصالح التصفيات .. كيف يولد الفن والعيون من حوله تفرض العبوس قبل الابتسام وتترصد التشوهات قبل أن تترأى الاشراقات جلست إلى فنان كبير يحاول أن يخرج تواتراته وانفعالاته عبثاً مع دخان السيجارة التي في فمه وهو يشكو تغول الفنانون الصغار على أغنياته وأردف وليتهم يقدمونها بذات (النفس) الطازج.. ويرهقونها بالآهات والمد (العوير) المتصل فتلتقطها مجرد اشتات متقطعة بتركيب (تايواني) وهم ينشدون الإضافة .. هديت خاطرو .. وقلت ليهو التدخين يضر بالأغنيات فابتسم قائلاً: (نحن خائفين على خلاصة الفن أن يُفرقه التقليد أيدي سبا).
والشباب يعتقدون أن الكبار يكسرون أجنحتهم ويتمسكون بالكلاسيكية دون منحهم انفعالات الابتكار ونحن نقول إننا مع الابتكار والتجديد الذي يبدأ من الصفر دون أن (يهبش) الأعمال الجاهزة التي صنعها غيرهم .. ومرجعية الفنان أن يبدأ بالصراخ في الحمام .. ثم يعرج إلى أغاني الحقيبة فيعوس فيها فساداً ثم يدلف إلى وردي .. وأبو اللمين وكابلي .. ليصنع لنفسه القبول المزعوم ويتناسى أن الغناء لهؤلاء العمالقة يسلط الضوء على فشله ويجعل عثراته على قفا من يشيل.
ذهبت ذات مساء إلى المسرح القومي لأعرف كيف تحولت الأطلال إلى اصداء وكيف رقصت الأسماك الهزيلة على موسيقى الفجيعة. الجسارة في أعرافنا أضحت نصوصاً غير مكتملة الفكرة .. وحقيقة تاهت خطاي.. وعرفت الديار بعد توهم.
المسرح كان خالياً إلا من بقايا ذكريات كان قوامها الراحل الفاضل سعيد .. وهنالك على الكراسي المتراصة وجدتهم يصيغون النزاع مسرحية على الهواء الطلق منزوعة الضحكة والدسم .. وتساءلت عن أزمة الدراما .. والمسرح التي ضاقت ولما استحكمت حلقاتها ضاقت تاني.
واكتشفت أن حاجتنا إلى النقاء والصفاء أكبر من فكرة موجودة في التاريخ وأن إعادة ترتيب الدواخل أهم من تزيين الستائر بالأمنيات ورص الكراسي للحضور (لشحد) التصفيق الداوي.
لذلك أقول إن لعبة العداء التي يمارسها الكل في سبيل التقاط (الكعكة) من شأنه أن يشعل الحريق في أوساط المبدعين ويثنيهم عن تحريك رغبة العطاء لبلد يتعاطى الذوق منذ نعومة أظافره ويقرأ بعين فاحصة ما بين السطورويلتقطها وهي (طائرة) لأن مشهيات الفكرة .. عنده ناضجة.
ولو تعامل كل مبدعي بلادي بعيداً عن التعقيدات وتصفية الحسابات .. فإن الجمال سيقدل باسماء في البواكير وامتدادات الأزمنة والأمكنة.. ويقال إن أبودرداق بعد أن تزوج (القمرة) نتيجة جهده الوافر في تنظيف الشوارع والطرقات.. وبعد أن ضمنت (القمرة) ذلك الزهو.. طالبته بتنظيف دواخل الإنسان .. فأطرق ملياً فرمى يمين الطلاق عليها.

Exit mobile version