للراحل أحمد فؤاد نجم، دوائر شعرية تنداح نحو مدىً بعيد وقصيّ لتنفتح على اللاّ معقول المُستهلم من الواقع، وبمقاربة هذا السياق والاستدلال به، يمكننا أن نُراكم من (واقعنا) السياسي المُنغمس حتى أُذنيه (الطويلتين) في (اللاّمعقول) مادةً ضخمة ينبثق خلالها الضروريِّ من عبث اللاضروريِّ. يقول نجم مثلاً: “هابط شابط/لابط راقع خابط/ نازل شافط/ طالع لاهط/ عمره ما فكر فكرة وصابت/ عمره ما نبت زرعة وطابت/ يزرع سكر يطلع شطة/ حطة يا بطة يا دقن القُطة”.
هذه الدائرة الشعريَّة (الطائية)، رغم إيغالها في السُخرية وتفجُرها بلغة هازلة، لكنها متصالحة حد العناق ليس فقط مع الواقع الماثل في الحيِّز الجيوبولتيكي الذي أُنتجت فيه، بل حتى أنها تُحايِث تخومه وتعبر عنها بطلاقة وبلاغة لا نظير لهما.
بطبيعة الحال، فإن الدائرة استخدمت – عن قصد وعمد – لغة هشة حتى في ذورة انفراجها وانغلاقها، وقلت عن (عمد) كي أشير إلى التكنيك الشعري في هذا الحالة، لن ينجو من الانهيار والفشل، إذا لم يتوسل إلى الواقع الهش بلغة أكثر هشاشة، وهذا ما يُحدث نوعًا من الانسجام والاتساق ومن ثم التماسك بين الواقع واللغة التي تعبر عنه، وهذا ما يجعل الصورة الشعرية تطغى وتستكبر وتتفوق على الناقل اللغوي.
أما بعد: فإن الصورة التي ينتجها (شطر شعري) مثل (هابط شابط/لابط راقع خابط/ نازل شافط/ طالع لاهط)، تبدو مذهلة لجهة أنها تنقل عبر لغة عاديّة ويومية حقيقة الواقع، ليس في مصر فقط، بل حتى هنا في السودان، وربما في كثير من الدول الأخرى التي تعاني مثلنا جراء (اللهط والشفط)، لكن المُتأمل للدائرة الشعرية – خاصة نجم – لا يفوته أن يلاحظ أن مؤشرها (نواتها) يدور عكس اتجاه عقارب الساعة (النظام السياسي وتختِهِ)، وهذا ما يجعل (الرأس الجمعيَّة) للنظام السياسي المعني، يُصاب بـ (دوخة) ربما تُفقِده وعيَّه وحضوره وذكاءه، فليجأ إلى تحييد الدائرة أو محاكمتها أو اعتقالها بدعاوى عديدة، إلاّ أن مثل هذه الدعاوى تخلق – في الغالب – ما هو أكثر عبثيَّة بإنكارها الواقع وإسكات الأصوات التي تُعبِّر عنه، حتى لو كانت قصيدة.
والحال هذه، فإننا إذا ما أردنا وضع واقعنا الماثل الآن، داخل الدائرة الشعريَّة لقصيدة أحمد فؤاد نجم (موضوع الكتابة)، فسيغدو حبيس تيارها ورهين إسارها – لا ينفك عنهما – وهناك وبينما تدور الدوائر الشعرّية ويدور معها واقعنا، فيفوران ويموران، فيما ننظر نحن – مثلاً – إلى السكة حديد، النقل النهري، مؤسسة الدولة للسينما، نادي القصة، اتحاد الكتاب، إنتاج النفط والغاز والذهب، إلى كل شيء، أي مشروع اقتصادي أو ثقافي أو فكري أو خدمي، كان قائمًا وسائدًا لسنوات ثم باد، أو أُبيد، فإننا لا نملك إلا أن نُردد: “عُمرو ما نبت زرعة وطابت/ يزرع سُكَّر يطلع شطة”.
* من أرشيف الكاتب*