أخيراً بعد غموض وتوجس هبطت طائرة دكتور رياك مشار زعيم المتمردين بدولة جنوب السودان بمطار العاصمة جوبا. عاد الرجل للمدينة التي خرج منها بحذائه المنزلي تحت نيران القذائف، حينما تعرض منزله وهو نائب الرئيس لهجوم مفاجئ بالأسلحة الثقيلة بأمر وتوجيه الرئيس سلفاكير. أكثر من خمسين ألفاً كانوا ضحايا حرب ضروس استمرت لأربع سنوات، حرب على مقاعد السلطة والنفوذ وتؤجج من نيْرها الخرافات والأساطير. ما ظل يدفع رياك مشار بحماس نحو كرسي الرئاسة بدولة جنوب السودان وجود نبوءة شهيرة لزعيم قبيلته (قبيلة النوير) ويدعى (نيقدينق) والتي تؤكد أن رئيسًا مفرق الأسنان سيحكم دولة الجنوب!
الخرافات لا تنتهي..
رياك مشار كان في مقدمة المحتفلين بعودة العصا السحرية لقبيلة النوير بعد غياب ثمانين عاماً من أخْذِها من قِبل القوات الاستعمارية البريطانية، والعصا تستخدم في الطقوس وينظر إليها على أنها رمز القوة والزعامة.
وقد أُخذت عصا الكاهن نقون دينق والمعروفة باسم (دانق) من قبيلة النوير، بعد هزيمتهم من المستعمر البريطاني عام 1929.
ويدَّعي أتباع دينق أنه كان يتمتع بطاقة روحية هائلة، وقد تنبأ بأن يحكم زعيم من قبيلة النوير جنوباً مستقلاً. واعتبر كثيرون عودة العصا بمثابة إشارة قوة لرياك مشار وإيذاناً باقتراب موعد حصوله على كرسي الرئاسة.
وإذا كان لرياك مشار اعتقاد أو استغلال لخرافة العصا، فإن للرئيس سلفا كير قناعة مشابهة في القبعة السوداء التي لا تغادر رأسه أغلب الوقت وتوجد كثير من الروايات حولها.
تحت الضغوطات الدولية والتهديدات بعصا العقوبات خضع الرجلان لاتفاق سلام أعاد الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل اشتعال الحرب.
موت ودمار ولم تتغير الأوضاع، نعم اتسعت مقاعد السلطة لتضم 38 وزيراً من الطرفين ولكن في مقابل ذلك اتسعت المقابر الجماعية لتضم جثث الآلاف!
بعد كل الموت والدمار والخراب الذي أصاب الدولة الجديدة جراء ذلك الصراع العبثي لم يستطع الرئيس سلفاكير أن يتخلص من نائبه، ابن القبيلة الثانية في دولة الجنوب، ولا استطاع النائب أن يزيح الرئيس من مقعده!
سلفاكير ميارديت ظل طوال فترة حكمه بعد الانفصال في صراع درامي مع شخصيتين؛ واحدة من الماضي والأخرى في المستقبل!
الشخصية الأولى من الماضي، هي شخصية الراحل جون قرنق مؤسس الحركة التي قادت الحرب ضد الدولة المركزية ووصلت للحكم بعد انفصال الجنوب، وتلك الشخصية ظلت تمثل هاجساً لسلفا كير بالمقارنات رغم غيابها عن المشهد السياسي في الدولة الوليدة.
والأخرى في المستقبل؛ وهي شخصية نائبه دكتور رياك مشار خريج كلية الهندسة بجامعة الخرطوم وابن قبيلة النوير وهو سياسي ذو مقدرات إدارية وتنظيمية متميزة مع مكر تكتيكي لا يخفى عن أعين المراقبين والمنافسين، مكر يحاول ستره بابتسامة دائمة لا تتأثر بتقلبات الطقس السياسي!
لرياك مشار طموح جارف في أن يصبح وريث سلفاكير في رئاسة الدولة الجديدة أو بديله في حال حسم المواجهة العسكرية لصالحه!
وإذا كان بالإمكان القول إن سلفا كير استطاع– لحد ما- التخلص من شبح جون قرنق إلا أنه وجد نفسه في مواجهة حتمية مع مشار الذي ظل ينافسه وهو متدرع بالمؤهلات الذاتية وبالأساطير والخرافات.
المجتمع الدولي الذي دعم بقوة خيار انفصال جنوب السودان عجز عن منع الحرب، وربما سيعجز كذلك عن الحفاظ على السلام الذي تحقق طالما سوء الظن قائما والأساطير لا تزال تتحكم في الواقع وترسم معالم المستقبل.