ما زالت أزمة الأمن الناتجة عن الصراع السياسي الحاد في بوروندي، والمتأججة منذ حوالي عام، تُلقي بتبعاتها الثقيلة على منطقة البحيرات العظمى في إفريقيا. دعا ذلك الأمم المتحدة إلى اتخاذ قرار بنشر قواتٍ تابعةٍ لها لضبط الأمن هناك.
لم تخلُ دولة من الدول المشاطئة للبحيرات الاستوائية من الصراع، منذ بداية تسعينيات القرن الماضي، بل إنّ تداخل القبائل بين هذه الدول والولاءات فيما بينها أوجد تمازجاً في الأحداث، وجعل من العسير التركيز على أزمة دولةٍ، من دون الرجوع إلى جذورها في الأخرى.
انتهت أحداث الإبادة الجماعية في يوليو/ تموز 1994، عندما احتل الجيش الوطني الرواندي العاصمة كيغالي، ما أدى إلى تدفق موجاتٍ كبيرة من اللاجئين الهوتو إلى الدول المجاورة، مثل جمهورية الكونغو الديمقراطية وتنزانيا التي لعبت الدور الأساسي في إنهاء الحرب الأهلية في بورندي عام 2005، بسعي رئيسها جاكايا كيكويتي إلى احتواء الأزمة بمشاركة الدول الأعضاء في السوق المشتركة لشرق أفريقيا. ففي أروشا التنزانية، تمت المفاوضات الخاصة برواندا التي شهدت أكبر حرب عرقيّة في تاريخ أفريقيا، وانتهت، إثر تلك المفاوضات، عشر سنوات من الحرب الأهلية بين الهوتو والتوتسى، راح ضحيتها أكثر من 300 ألف شخص، ووُقّعت فيها اتفاقيات أروشا للسلام.
بنزوح أكثر من 50 ألف بوروندي إلى الدول المجاورة، نتيجة أعمال العنف التي بدأت في منتصف إبريل/ نيسان 2015، احتجاجاً على قرار رئيس بوروندي، بيير نكورونزيزا، ترشيح نفسه لولاية ثالثة، تكون بوروندي قد دخلت حلقة جديدة من العنف ما زالت مستمرة. وتكمن المعضلة الأساسية للأزمة في التكوين القبلي الذي أخذ بتلابيب السياسة في بوروندي بشكل خاص، ومنطقة البحيرات العظمى ككل، فالرئيس البوروندي ينتمي إلى قبيلة الهوتو التي تشكل الغالبية من سكان بوروندي، فيما تعود مرجعية المعارضة إلى قبيلة التوستي التي ينحدر منها زعيم المعارضة. ويزداد تشابك الوضع، لأنّ قبيلة الهوتو من أكبر القبائل في وسط أفريقيا، ولها امتدادات في بوروندي ورواندا وأوغندا. واستلزم هذا الوضع تحرك قادة شرق أفريقيا (بوروندي ورواندا وتنزانيا وكينيا وأوغندا) لعقد لقاء في دار السلام في تنزانيا يوم 13 إبريل/ نيسان الجاري، تمخض عنه الاتفاق على دعوة الحكومة البوروندية لتأجيل الانتخابات فترة لا تتجاوز ولاية الحكومة الحالية، ودعم الجهود الإقليمية الرامية لاستعادة السلام والاستقرار وضمان عودة اللاجئين، وإجراء الانتخابات بطريقة سلمية وحرة ونزيهة وشفافة وشاملة، ووقف العنف من جميع الأطراف.
“أصبحت ضرورة الوصول إلى السلام بأي وسيلة في منطقة البحيرات العظمى هاجساً للأطراف الدولية التي لها صلة بالمنطقة، رغبة منها في الحفاظ على ما تبقى لها من مصالح اقتصادية هناك”
وفي أثناء اجتماع القادة الأفارقة في دار السلام، وقعت المحاولة الانقلابية في العاصمة البوروندية بوجمبورا. وكانت تداعياتها أن أصدر الاتحاد الأفريقي بياناً يرفض التغييرات غير الدستورية، والتزامه بسيادة القانون والديمقراطية، على النحو المنصوص عليه في القانون التأسيسي والميثاق الإفريقي للديمقراطية والانتخابات والحكم.
وفي الكونغو الديمقراطية، اشتدت أيضاً المجازر المتتالية التي ارتكبتها المجموعة الأوغندية المسلحة، وهي مكونة من الحركات المعارضة للرئيس الأوغندي، يوري موسيفيني، وحصدت منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2014 مئات القتلى والجرحى، بحسب “هيومن رايتس ووتش”.
يعصف هذا الصراع بالتوازنات الإقليمية في منطقة البحيرات العظمى في أفريقيا، ويمتد إلى الشرق، حيث القرن الأفريقي الذي تجاهد أميركا في جعله منطقة قوة تربط بين مصالحها في آسيا وأفريقيا. مثّلت تحركات السلام، أخيراً، في البحيرات العظمي عاملاً حاسماً، خصوصاً وأنّ تلك المنطقة الغنية بالمعادن تمثّل أهمية كبيرة للغرب. فالكونغو الديمقراطية وحدها تزخر باحتياطي كبير من النحاس والكوبالت والماس والذهب، بالإضافة إلى اليورانيوم المستخرج من منطقة كتانغا، والذي اشتهر باستخدام الولايات المتحدة له في صنع القنابل الذرية التي أطلقتها على هيروشيما وناغازاكي في اليابان عام 1945. كما يدخل أيضاً في تبرير فشل جميع المحاولات لإيقاف الصراع في المنطقة لما له صلة باستخدامه.
أصبحت ضرورة الوصول إلى السلام بأي وسيلة في منطقة البحيرات العظمى هاجساً للأطراف الدولية التي لها صلة بالمنطقة، رغبة منها في الحفاظ على ما تبقى لها من مصالح اقتصادية هناك. وعلى الرغم من اختلاف مصالح الدول الغربية عن مصالح شعوب منطقة البحيرات في ضرورة إحلال السلام، إلّا أنّ الاهتمام الدولي، في هذا الوقت، يمثّل سنداً وضماناً قويّاً لإعادة تأهيل المنطقة.
يمتد تأثير صراع البحيرات شمالاً ليفاقم معضلة اتفاقية تقاسم مياه النيل الذي وقعت عليه بوروندي في 28 فبراير/ شباط 2011، لتلحق بالدول الموقعة قبل ذلك بعام، وهي تتيح للدول الواقعة عند منابع النيل إقامة مشاريع للري والطاقة الكهربائية، من دون الحصول على موافقة مسبقة من مصر. وبوصفها دول حوض النيل، سيكون أمن النهر والاتفاقيات بين دول المنبع والمصب تحت رحمة استقرارها.
يحمل النظام السياسي في منطقة البحيرات، مثل غالب الدول الأفريقية، بعض ملامح النظم الفاشية. والحراك الشعبي القبلي الراضخ لأجهزة الدولة القمعية والعنف المتولد عن ذلك دليل على معاداة الديكتاتورية، بقدر ما هو تخوّف من سلطوية جديدة، متمثلة في محاولات الانقلابات العسكرية. وهذا يعني أنّه قد تكون هناك قابلية لدى هذه الشعوب لتقبل نظام ديكتاتوري آخر، ولو لم يكن عسكرياً، وهذه آفة أفريقيا منذ استقلال دولها التي تدور في حلقة من سلطويةٍ قبليةٍ إلى أخرى.