لست أدري والله حتى الآن السبب المباشر الذي أدى إلى عزل العالم الاقتصادي الفذ الدكتور عبدالوهاب عثمان من منصبه كوزير للمالية والذي شغله في السنوات الأخيرة من القرن الماضي بالرغم من أنه أنجز ما لم ينجزه أي من نظرائه في عهد الإنقاذ، فقد تمكن الرجل من إدرة الاقتصاد بفاعلية مدهشة في ظروف قاهرة وغير مواتية كان من أبرز تجلياتها نجاحه في كبح جماح الدولار الذي شهد قبله صعوداً وتمرداً وخروجاً عن الطوع لا يختلف البتة عما نشهده في هذه الأيام النحسات.
على أنّي أرجح سبباً ربما كان وراء الإطاحة بالرجل الكبير هو أننا في السودن لا نملك الإرادة السياسية التي تجعلنا نحتمل سداد فاتورة الإصلاح وضريبتها الباهظة كشأن الطبيب الذي يتردد في إجراء عملية منقذة للحياة خوفاً من الألم المبرح الذي ينتج عنها فلا غرو ألا تحتمله مراكز القوى أو ما سماه وزير المالية الحالي بالدولة العميقة التي تقف حجر عثرة في طريق كل إصلاح في كل شأن من شؤون وطننا المغلوب على أمره.
الخبرة الثرة والإرادة الحديدية والالتزام الأخلاقي هي المؤهلات التي أسعفت عبدالوهاب عثمان فجعلته يأتي بما لم تستطعه الأوائل فقد اكتسب خبرته من أدنى السلم فور تخرجه في جامعة الخرطوم إلى أن صعد إلى وكيل وزارة المالية قبل قيام الإنقاذ، ثم واصل صعوده إلى أن تبوأ المنصب الذي تأهل له بخبرة لا تجارى وأحدث فيه ما ظللنا نفتقده منذ أن غادره بفعل أعداء النجاح الذين سيظلون العائق الأكبر أمام المسيرة الوطنية ما لم ينصلح المناخ السياسي الذي يكسرهم ويفرض منهج الحكم الراشد على واقعنا السياسي المأزوم.
جاورته في حي الصافية بالخرطوم بحري لمدة عام تقريباً وأقسم أني لم أسبقه في يوم من الأيام إلى صلاة الفجر فسألته ذات يوم : متى تأتي إلى المسجد أيها الرجل ؟ ياخي خلينا مرة واحدة نسبقك فأسرني بما أشعرني بتفاهتي وقلة تديني والله العظيم، فقد قال لي إنه يأتي إلى المسجد في الثالثة صباحاً كل يوم ويقرأ ثلاثة أجزاء من القرآن الكريم في اليوم، فقلت له معقباً : طبعاً هذا حدث بعد أن غادرت وزارة المالية فقال : لا والله فقد ظل هذا ديدني حتى عندما كنت وزيراً.
حدثني د.حسن أحمد طه أن مستثمراً كورياً جلس ذات يوم إلى عبدالوهاب عثمان وعرض عليه عمولة أو قل رشوة كشأنهم مع الوزراء الأفارقة، فما كان من عبدالوهاب إلا أن قام من كرسيه والشرر يتطاير من عينيه وتوجه نحو الكوري ليفتك به فقام الكوري وجرى خارج المكتب وجرى عبدالوهاب خلفه ورأى الموظفون الوزير جارياً خلف الرجل في الممر مطارداً إياه إلى أن تدخلوا ليعيدوا عبدالوهاب إلى مكتبه.
كان عبدالوهاب عثمان من أول الذين انضموا إلينا عندما صدعنا بدعوتنا إلى فصل الجنوب عن الشمال كحل للمشكلة التي أرقت السودان وعطلت مسيرته وقتلت بنيه والتحق بمنبر السلام العادل عندما أنشئ كتيار شامل يضم كل المقتنعين بالفكرة كنائب للرئيس، ومن بين هؤلاء أذكر الداعية الخلوق فتحي خليل المحامي رحمه الله، وكثير من النخب والقيادات، وكان عبدالوهاب من مؤسسي شركة المنبر التي أنشأنا بها صحيفة الانتباهة وعندما تحول المنبر إلى حزب سياسي استجابة لقانون تنظيم الأحزاب السياسية اختار أن ينأى بنفسه لكنه ظل في الانتباهة وأشهد أنه لم يشارك في المؤامرة الأخيرة.
بعد ان تقاعد عن الوظيفة ظل عبدالوهاب عثمان يبذل علمه لوطنه من خلال تأليف مجموعة قيمة من الكتب التي رفد بها مكتبة الاقتصاد ستكون بمشيئة الله معيناً للباحثين عن التميز في سعيهم الدؤوب لاجتراح العلاج الناجع لأزمات السودان الاقتصادية.