الأولياء الذين يسمو مقامهم، فوق الحاكم، هم ثلة من أهل الطريق، لهم قدرات خارقة، تؤهلهم لأداء أدوار اجتماعية وروحية سامية، ولذلك لهم حضور بين العامّة وفي مجالس الحكّام، لما يتمتعون به من مهارات، وما يتسلحون به من معرفة ليست لغيرهم.. ويُحظى هؤلاء بحصانة قدسية، فلا تتقيد أقوالهم وأفعالهم بمحاذير السلطة وقيود النص، انطلاقاً من مفهوم، أنْ ليسَ لهؤلاء إلا سلطان واحد، هو الله.. من هذه الفئة ذات السطوة، نذكر الشيخ محمد الهميم ولد عبد الصادق، الموصوف بأنه (معتوق الله).. والمعتوق هو الحُر، في كل ما يأتي، لسرٍ بينه وبين الله، أنظر: الطبقات، ص320..من أولئك أيضاً، إسماعيل صاحب الربابة، الذي ليس لأحد سلطانٌ عليه، حتى شيخه (لا يقدرو).. وقد ظل صاحب الربابة جريئاً على السلاطين كأبيه الشيخ مكي الدقلاشي، الذي- يروي ود ضيف الله- أنّه همَّ بأن يفقأ عين الملك عندما أومأ للملك بأصبعه، فزاغ الملك، قال لمجالِسيه: (إن كان ما زُغْت، كان أصبعه يقد راسي(..!
ومرةً أغلظ صاحب الربابة، في الخطاب داخل المجلس، حتى أغضب السلطان..غضِب السلطان، فراجعه أعمامه، ألا يؤذي الشيخ اسماعيل أو يتورّط في دمه، خوفاً من خراب الديار.. وكان للشيخ حسن ود حسونة في زمانه، موكب مهيب، يضاهي موكب ملوك الفونج، حتى أن ملك سنار توجس خيفة من ذلك، حين زار الشيخ حسن سنّار متصدِّراً حاشيته.. يقول صاحب الطبقات، أن الملك عندما رأى ذلك المشهد قال لمن حوله: (هذا فكياً أخذ ملكنا، فكاشَفه ود حسونة قائلاً: مُلكك دَا، عَرضوه عليَّ، وأنا أبَيتُو)..! ثم يدخل الشيخ حسن البلاط، ويقوم بتطبيب شقيق الملك من الجنون، وينصّبه في وظيفة داخل القصر لخدمة المتطرقين، أو- على حد عبارة الشيخ ود حسونة- فقد نصّبه هناك، حتى (يكون خشم حوش للفقرا).
أكثر من هذا، كان السلطان يخضع لمحاسبة الولي وتوبيخه، كما أن تبريك الولي للسلطان، يعتبر ضمانة أساسية لبقائه حاكماً.. وتحمل قصة الشيخ خليل الرومي مع السلطان بادي الأحمر هذا المعنى، وهي حادثة بها شذرات من أدب المسيحية في طلب الغفران على يد صاحب السلطة الروحية.. تقول الرواية، إن الأميرة كمير أخت السلطان، لجأت إلى الشيخ خليل الرومي، وقالت له إن العسكر سلبوا الملك من أخيها، وأنها تخشى عليه من الهلاك على أيديهم.. فقال لها.. أخوك الظالم المفسد..!؟ فقالت: ( آتيه إليك ويتوب على يديك من الظلم والفساد(.. وجاءت به الى الشيخ، متخفياً في أثواب امرأة. وجلس أمام الشيخ تائباً، معترفاً بأخطائه، وقال في حضرة الشيخ: ( أنا تُبْتَ مما تنهاني عنه). .فقال له الشيخ خليل الرومي:( الفونج أخذوا عمامة الملك، فهاكَ عُمامتي، وضمِنت لك ملك ابيك إلى أن تموت).. وكما هو واضح من النص، فإن السلطان بادي الأحمر، قد أحاط به الجند، في يوم تنافس مع غريم فونجاوي، أو ربما يكون عبدلابي تضعضع مركزه بعد المفاصلة الشهيرة بين الطرفين …الشاهد، أن عمامة الولي كانت هي الأصل في التتويج، فقد حدث مراراً، أن توِّجَ أولياء كثيراً من الحكام فى مناصبهم، من ذلك، إنّ الشيخ عووضة شكّال القارِح ثبّتَ حاكم دنقلا العجوز في منصبه، بعد أن عزله ملوك العبدلاب، كما أسبغ الشرعية على حفيد الملك حسن ولد كشكش، وأجلسه في مقام أبيه. .وكذلك، حُظِيّ ملك الجعليين عبد السلام القتلوب، برضا الشيخ إبراهيم ولد بري، فكان له المُلك، ثم جُرد منه، حين وقعت عليه اللعنة …وبعد غضب الشيخ عليه، يقول صاحب الطبقات، أن أحداً من ذريته (لم يتولَّ الملك إلى يومنا هذا)..!