إفريقيا، هذه القارة التي لطالما لاحقتها نعوت “التخلّف” و”التهميش”، تخطو اليوم بثبات نحو القطع مع هذه الأفكار المسبقة وكسر الصورة النمطية المرسومة لها في الأذهان، من خلال منحها لأهمّية متزايدة لإحدى مجالات التقدّم والتطور في العالم، ألا وهو البحث العلمي.
ومع أنّ الأشواط التي تقطعها بهذا الإتجاه لا تزال دون المستوى المطلوب، إلا أنّ جهود القارة السمراء بهذا الصدد حرية بالتشجيع، بحسب البروفيسور لوسيان بامبو، دكتور الإقتصاد بجامعة باريس 10 وباريس 9.
ووفقا لتقرير مشترك بين البنك الدولي والنشرية العالمية “إلسفير”، فإن كمية وجودة أبحاث الأفارقة سجّلت تطورا، رغم أنهم لا ينتجون سوى 1 % من الأبحاث العلمية العالمية. الوثيقة نفسها أوضحت أنّ الباحثين الأفارقة تمكنوا في الفترة الفاصلة بين عامي 2003 و2012، من مضاعفة أبحاثهم، من خلال إصدارات شملت مجالات متنوّعة، بينها علوم الصحة والزراعة والعلوم التكنولوجية والهندسة والرياضيات.
أما في ما يتعلّق بتمويل البحوث، فإن العديد من البلدان الإفريقية أعربت عن اهتمامها المتزايد بهذا المجال. ففي السنغال، تندرج الإعتمادات المخصصة للبحث العلمي ضمن ميزانية عامة مخصصة لوزارة الإشراف، أي لوزارة التعليم العالي والبحث، وهذه الميزانية شهدت ارتفاعا من 203.3 مليون دولار في 2014 إلى 224.5 مليون دولار 2015، قبل أن تدرك عتبة الـ 257.3 مليون دولار في 2016، بحسب الأرقام الرسمية.
وفي كوت ديفوار، سجلت المنحة المخصصة للبحث العلمي ارتفاعا من 800 ألف فرنك إفريقي (ما يعادل 1384.8 دولار) في 2015، إلى مليوني فرنك إفريقي (3462.1 دولار) في 2016، وذلك بمقتضى قرار صادر في 23 مارس/ آذار الماضي، عن مجلس وزاري.
قفزة نوعية كان لابدّ وأن ترفع من حصة بلدان إفريقيا جنوب الصحراء في البحث العلمي العالمي، والذي سجّل زيادة من 0.44 % إلى 0.72 % خلال العشرية الفاصلة بين 2003 و2012.
التقرير المذكور أشار أيضا إلى أن بعض البلدان الإفريقية تسير على الدرب الصحيح في هذا المجال. ففي أوغندا، تهدف مبادرة “ملينيوم ساينس” (ألفية العلم)، باستثمار قدره 33.4 مليون دولار، إلى الحصول على أكبر دفعة من حاملي الشهائد العليا في اختصاصات العلوم والهندسة، ضمن توجّه ساهم في الترفيع في عدد الباحثين بشكل ملحوظ (من 261 إلى 720 اليوم)، فيما ارتفع عدد الطلبة المسجّلين بمرحلة الدكتوراه من 24 إلى 42، وطلبة الماجستير من 245 إلى 633.
أندرياس بلوم، المختصّ الاقتصادي بقطب التعليم في البنك الدولي، وهو أحد مؤلفي تقرير “عقد من التنمية: البحوث العلمية، التكنولوجيا، الهندسة والرياضيات في إفريقيا جنوب الصحراء”، اعتبر أنّ “نسبة الأبحاث العلمية المتأتية من شرق وغرب وجنوب إفريقيا تنمو بشكل مطّرد”، لافتا إلى أنّ “الحكومات الإفريقية استوعبت حقيقة أن إنتاج وتقاسم المعرفة من العوامل المحدّدة في تعزيز رأس المال البشري والنموّ الاقتصادي”.
ووفقا لقسم إفريقيا بالدائرة الإعلامية للأمم المتحدة، فإنّ 10 بلدان من منطقة إفريقيا جنوب الصحراء، تمتلك أكاديميات للعلوم، وهي جنوب إفريقيا والكاميرون ومصر وغانا وكينيا، إضافة إلى كلّ من مدغشقر ونيجيريا وأوغندا والسنغال وزيمبابوي.
ولتعزيز البحث العلمي في إفريقيا، بشكل يجعل من هذا المجال حاجة حيوية لا تقلّ شأنا عن الصحة والتعليم، أوصى بامبو بإنشاء 3 أقطاب علمية في القارة، الأول يمكن أن يكون في محيط المغرب، هذا البلد الواقع في شمال إفريقيا، والذي يقطع خطوات ثابتة في العديد من المجالات، لاسيّما في قطاع الصحّة، بحسب الخبير.
القطب الثاني رأى بامبو أنه ينبغي أن يكون في محيط نيجيريا، والتي تتصدّر طليعة اقتصادات القارة السمراء، كما أنّ هذا البلد يمتلك بنية تحتية متطوّرة تؤهّله للتقدّم والإشعاع على دول الجوار، في حين أن دولة جنوب إفريقيا مرشّحة بقوة لإحتضان القطب الثالث، نظرا لتصدّر جامعاتها، في معظم الأحيان، لائحة الترتيب القاري، وباعتبار إمكاناتها الاقتصادية المتطورة.
دراسة البنك الدولي أشارت أيضا إلى أنّ العديد من بلدان إفريقيا جنوب الصحراء تواجه في معظمها نفس العقبات، حيث تعاني من ضعف جودة تعليمها الأساسي في العلوم والرياضيات، ومن تعليم عال يرتكز بشكل مبالغ فيه على العلوم الإنسانية والاجتماعية، يضاف إلى كلّ ذلك تمويل دولي غير كاف، غالبا ما يستند بشكل مفرط على البحوث في العلوم والهندسة الزراعية والصحة.
وبناء على ما تقدّم، أوصى البنك الدولي الحكومات الإفريقية وشركاءها في التنمية، بمضاعفة الجهود لاحتواء العلوم المرتكزة على البحوث. كما أوصى بضرورة التسريع في التدابير والإجراءات الهادفة إلى الترفيع وتحسين تعليم العلوم وتكنولوجيات المعلومات والإتصال، من أجل استفادة أكبر من الموارد الطبيعية التي تزخر بها القارة الإفريقية.
مؤشرات تجمع على أنّ مستقبل البحث العلمي في إفريقيا واعد، وأنّ غدها سيكون مشرقا، بحسب الخطوط العريضة التي خلص إليها “منتدى أينشتاين التالي” المنعقد بالعاصمة السنغالية داكار في مارس/ آذار الماضي. التظاهرة العلمية كرّمت 3 مواهب واعدة في هذا المجال، وهم موسى بانغورا، وهو مهندس طيران من سيراليون، وقد قدّم مشروعا يعنى بإيصال الأدوية والمنتوجات الصيدلية عموما إلى الأماكن التي يصعب الوصول إليها في البلاد، وذلك عبر استخدام طائرات بدون طيار مدنية.
الثاني هو موسى تيام، مهندس مدني من مالي، ويتمحور مشروعه حول صنع الإسمنت اعتمادا على البلاستيك والرمال. أما الثالث، فهو أرينتامبو تابو، عالم الكمبيوتر الكاميروني، ومخترع آلة تحكّم صوتية، لمكافحة وفيات النساء خلال فترة الحمل أو بعد الوضع.
حيثيات تبعث على أمل يبدو أنه امتدّ ليطال حتى الجانب السياسي للقارة. شحنة تفاؤل تجد جذورها في تطبيق توصيات المنتدى المذكور من قبل رؤساء البلدان الإفريقية المشاركين في أعماله، من ذلك تصميم وتمويل سياسات التدريب، والبحث والإبتكار في مجال العلوم والتكنولوجيات، وإفساح المجال للمواهب الشابة والمتميّزة، وتخصيص 1 % من الناتج المحلي الإجمالي للبحث العلمي بحلول العام 2025.
توصيات من شأنها أن تقلّص الفجوة بين البلدان الإفريقية ونظيرتها المتقدّمة، والتي تتراوح فيها حصّة البحث العلمي من 2 إلى 5 % من ميزانياتها العامة. ففي فرنسا على سبيل المثال، تقدّر هذه النسبة بـ 2.23 %، وفي ألمانيا 2.88 %. أما في الدانمارك، فتقدّر بـ 3.06 %، وفي إسرائيل 4.21 %، بحسب أحدث بيانات البنك العالمي بهذا الشأن والصادرة في 2013.
تونس/ محمد عبد لاوي بالإشتراك مع عليون بدارة وإيسياكا نغيسان/ الأناضول