رسائل إلى زينب 14
كم لبثت سكران، غائبا عن الوعي؟ أي سم قاتل ذاك الذي تجرعته في ليل الأمس وقربني من الموت بمقدار شبر لولا نداء الروح الذي أتاني بسارة لتنقذني وتقلني صباح اليوم إلى المستشفى..!
سكاكين مزقت أحشائي ونار من لظى اشتعلت بجوفي، ولولاها لكنت الآن في بطن الشبر.
قالت بعد عودتنا إلى المنزل: “جئت لأرد الأوراق فقط.. متى رجعت لهذا السم الهاري؟”، كانت مستاءة وقلقة، وكنت منهكا ومنهار الجسد، وأحس بعقلي مثل الماكينة المندفعة بأقصى سرعة تدوير تحركها. سقتني عصير ليمون بارد وقالت: “سأتركك لترتاح، سأعود إليك غدا”، قلت: “ابقي معي قليلا”. أخرجت الأوراق من حقيبتها وهمت بوضعها قربي ومن ثم النهوض لتمضي، لكني أمسكت بيدها وقلت: “اقرئي لي، اقرئي.. هذا يريحني”.. ترددت قليلا، قبل أن تمسك الأوراق بين يديها وتبدأ القراءة:
” في رحلة التيه يا زينب، رحلة بعثرتي في مجرات النساء بحثا عنك، هبطت في كوكبها، هل كانت تشبهك كم توهمت؟ أم أن جمالها فوق الإنساني هو ما جذبني إليها وورطني في شباك جسدها المنقوع في ماء الأبد؟ قمر النساء، هكذا نطقت اسمها، جاءت لتطارد معاش زوج توفى، رجل ما كان يعمل موظفا في هذه الشركة الملعونة، رجل ما من بين عشرات الرجال الذين يعملون هنا ويعبرون من أمامي كل يوم، طوال سنوات، لا أذكره، لا أذكر اسمه، لا أذكر ملامحه، ولا أذكر لحظة موته، رجل كالقمقم حبس لسنوات هذا الجن المسمى قمر النساء إلى أن مات فانطلقت دائرة في فضاءات جنوني وتيهي الأبديين.
لم أعط قمر النساء معاش زوجها الميت فقط يا زينب، اشتريت لها بيتا وأسكنتها وطفلتيها النجمتين؛ قريبا من البشر في وسط المدينة الجحيم هذه.. وصرت إليها، القمر، أحج صباحا ومساء، محملا بالذهب والفضة، وكل ضجيج العالم الاستهلاكي المحقون في جسيمات التقنية وأيونات الكهرباء، لكنها من حجر: قلبها حجر، جسدها حجر، روحها حجر، عيناها حجر، ابنتاها تحفتان بديعتان من حجر.. نقشت اسمك يا زينب على زوايا جسدها، رسمت اسمك يا زينب على صخر عينيها وعلقته ميداليتين من ذهب على عنقي بنتيها.. بكيت من وجع.”
طوت سارة الأوراق من جديد. وضعتها قربي على الفراش. منحتني قبلة حانية؛ قبلة أم أكثر منها قبلة حبيبة ثم مضت، ونمت أنا.