كثيرًا ما لفتنا إلى أن آراء (رجال الدين)، خاصة أئمة المساجد وخطباء الجمعة، في السياسة والاقتصاد، تأتي نتائج عكسية كونها تحيل الخلل الناجم في هذين المجالين إلى (السماء) مباشرة فيما الواقع يقول إن المفسدين والفاسدين يمشون بيننا على الأرض، وإن (السماء) غير مسؤولة عن ما يقترفون من جرائم في حق الوطن والمواطن.
وبإحالاتهم السماوية تلك، يبررون الفساد ويحمون المفسدين بطريقة غير مباشرة، فانظروا إلى ما نقلته يومية الجريدة عدد أمس السبت عن إمام مسجد الخرطوم (كمال رزق)، وهو يحلل أسباب ارتفاع الدولار أمام الجنيه. قال: “ليس هناك ما يوقف ارتفاع سعر الدولار، لأن المعركة مع الله، والمفسدون لم (يتربوا) على أخلاق وقيم الإسلام”.
حسنًا، إذا كان أمر ارتفاع سعر الدولار مقابل الجنيه معركة مع الله، فعلى كمال رزق وغيره أن يكفوا عن الحديث في هذا الأمر مرة وإلى الأبد، لأن لا أحدًا يستطيع أن يخوض معركة مع الله عز وجل، تنزه عن ما يقولون.
لكن كيف تسنى لإمام أكبر وأعرق المساجد في البلاد أن يروج بين الناس استعصاء السيطرة على (انفلات) سعر الدولار واستحالة كبح جماحه وإعادته إلى قيده وعقاله، لجهة أن (الله) سبحانه وتعالى طرفًا في الموضوع، فيا لهول ما يقولون! لأن الحقيقة الممتثلة لحيثيات ووقائع تقول إن هنالك إمكانية لوقف هذا الارتفاع، وأن حل المشكلة (بسيط)، وأن من ينشطون في المضاربة بالعملات الصعبة لا يحاربون الله، بل يحاربون من أجل تحقيق مصالحهم الشخصية الضيقة على حساب الاقتصاد الوطني، وسيادة الدولة وسطوتها وهيبتها، ولا يجدون في نشاطهم هذا عملًا ضد (الله) و(الدين) و(الوطن)، لذلك فإن توصيف ما يحدث من انهيار للعملة الوطنية إزاء العملات الأجنبية، خاصة الدولار، بالحرب مع الله توصيف مضلل يثبط من همم وعزائم من يريدون محاربة وإيقاف المضاربات، لجهة أن السماء فاعلة في هذه الجبهة.
والحال، إن بالإمكان حل الأزمة، وبأدوات أرضية كون المُتسببون فيها كائنات أرضية (بشر)، والمناط بهم حلها حكومة طاقمها مفردات بشرية أيضًا، فلماذا يطير بها (رزق) إلى السماء؟
الواقع، أن لا نشاط (إنتاجي) حقيقي في البلاد، فالزراعة بشقيها النباتي والحيواني، وهي عصب اقتصاد البلاد، متعثرة وغير مجزية كونها تُدار بطريقة متخلفة وبدائية، ما يدفع المزارعين والرعاة إلى الهروب منها إلى مهن أخرى، باعة جوالين، (فريشة) على الأرصفة، أو مهاجرين (في بلاد الله)، أما الصناعة، (عن أي صناعة سنتحدث)؟ فأنا لا أرى إلا وزارتها. هل سنتحدث عن المعادن؟ هل عن السياحة (النظيفة)؟ هل عن البنية التحتية؟ وهل وهل؟
تلك هي الأنشطة الاقتصادية الحقيقة، لكنها متوقفة، بسبب سياسات وزارات القطاع الاقتصادي، وبسبب سوء إدراتها، ونقص الكوادر المؤهلة، وهيمنة (المتمكنين) وإقصاء المتخصصين، وبالتالي صار الاقتصاد يعتمد على أنشطة قاتلة كالمضاربة والسمسمرة والتهريب، وغاب الإنتاج الحقيقي، فارتفع الدولار وسيرتفع يومًا بعد يوم، ما لم تتجه الحكومة إلى تحفيز الإنتاج وتنشيط القطاعات المنتجة ودعمها، وأن تمتلك ما يكفي من الإرادة للقضاء على المضاربين في الدولار، خاصة وأنهم ليسوا كائنات مجهرية دقيقة لا ترى بالعين المجردة، فمكاتبهم معروفة وموظفيهم معروفون يجوبون شوارع وأرصفة السوق العربي، فلماذا يبعث بهم كمال رزق إلى السماء ويضعهم تحت حمايتها، فيُصعِّب مهمة القضاء عليهم.