الجنيه السوداني.. اختلالات بنيوية
لا حديث اليوم في السودان إلا عن الحالة المرضية المستعصية للجنيه السوداني الذي يترنح أمام الدولار كالذي يتخبطه الشيطان من المس.. فقد شهد الأسبوع المنصرم تسجيل أعلى رقم قياسي للدولار مقابل الجنيه السوداني في تاريخ البلاد، حيث ارتفع سعر الدولار ليبلغ سقف 14 جنيها للدولار.. ولم يعد الاقتصاديون يحبذون كلمة (هبوط) لوصف تراجع الجنيه، بل يفضلون كلمة (انهيار) لوصف حالة الجنيه الذي يلازم سرير غرفة الإنعاش دون جدوى.
وانخفض سعر الجنيه في السوق السوداء عنه في السوق الرسمية بنسبة تجاوزت 100%، في مقابل 6.4 جنيه للدولار الواحد في المنافذ الرسمية.. المفارقة أن الرئيس البشير قال في حوار تلفزيوني أجري معه في العام 2010 وتنتشر مقاطع منه بكثافة هذه الأيام في مواقع التواصل الاجتماعي السودانية، أنه يتوقع أن ينخفض سعر الدولار في 2013 ليصل إلى 3 جنيهات فقط.
وأكد البشير في ذلك اللقاء أن الحكومة ماضية في ترتيبات اقتصادية تؤمن تحقيق ذلك الهدف الذي أعلن عنه. وعلى عجل ترأس البشير الخميس الماضي، اجتماعا للقطاع الاقتصادي في الحكومة في أعقاب التراجع المفاجئ للجنيه أمام الدولار وبقية العملات الأجنبية، دون أن يخرج الاجتماع بقرارات أو توجيهات محددة، بل تسابق وزراء القطاع لتبرير الأزمة وتبسيطها مقدمين تقارير وردية تجافي الواقع الأليم.
ويأتي الانخفاض المذهل للجنيه السوداني في سياق إجراءات حكومية متعسفة في حق المواطن الكادح بيد أن ذلك لم يجد ذلك فتيلا.. فقد رفع الدعم عن الوقود والدقيق، فخزينة الدولة حصدت أموالا طائلة جراء انخفاض سعر البترول عالميا فضلا عن رفع الدعم، لكن لا أحد يعلم أين تذهب تلك الأموال؟ بينما يزداد الدولار بشكل مخيف ومستمر.
وفي ذات الوقت الذي تفشل فيه الدولة في ترشيد الإنفاق الحكومي، وتقليل المصروفات الإدارية، تفشل في توفير مدخلات الإنتاج بل تفرض الضرائب الباهظة والأتاوات على صغار المنتجين. ويعترف وزير المالية بأن الرسوم التي يجري تحصيلها، تصل إلى 36 ألف نوع، قبل بدء تطبيق النظام الإلكتروني الجديد الذي يواجه عثرات كبيرة، ويؤكد ذات الوزير أن هناك 40 استمارة ورقية غير قانونية كانت مستخدمة في عمليات التحصيل.. وتعتبر موازنة العام الحالي 2016 موازنة تضخمية اعتمدت بشكل كبير على زيادة الضرائب ولا تعول على زيادة الإنتاج.
ويشير الاقتصاديون إلى أن أهمَّ أسباب ارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الجنيه ضعف الإنتاج وتراجع مساهمة القطاعات المنتجة في الدخل القومي.. وترتب على ذلك شح العملات الأجنبية فتعجز الدولة عاجزة عن الإيفاء بالتزاماتها تجاه شراء الواردات وتجاه المستثمرين الأجانب الذين يحتاجون إلى تحويل أرباحهم بالعملات الصعبة لبلدانهم. وتضاعفت معاناة المواطن عندما تخلت الدولة عن شراء الواردات وإصدار خطابات ضمان الاستيراد وتترك الأمر كله للقطاع الخاص الذي يحصل على الدولار من السوق السوداء. وتجاوزت واردات البلاد مبلغ سبعة مليارات دولار سنويا، في حين لم تتجاوز صادراتها أربعة مليارات دولار.
وتعجز وزارة المالية عن التحكم في عرض النقود، بسبب وجود أكثر من ثلثي الكتلة النقدية خارج القطاع المصرفي.. وبهذا لا تستطيع الدولة إدارة الكتلة النقدية لصالح برامجها وسياساتها المعلنة. ومن السهولة بمكان القيام بعمليات مالية عديدة دون علم البنك المركزي.. وفي ظل هذه الدوامة قد تلجأ الحكومة لزيادة طباعة العملة الورقية السودانية دون أن يقابلها إنتاج أو غطاء من الذهب.. وتلجأ الحكومة ومؤسساتها المختلفة لشراء الدولار من السوق الأسود لمقابلة الاستيراد الحكومي الذي يوصف بالبذخي، فهي المتهم الأول بزيادة سعر صرف الدولار مقابل الجنيه.
عدم الاستقرار السياسي أو ربما الفوضى السياسية ظلت علامة مميزة للأوضاع في البلاد، ومعلوم أن عري العلاقة بين معاش الناس، وبين الفعل السياسي جدُّ وثيقة، وتزداد تعقيدا والتباسا حينما يكون الفاعل السياسي، فاعلا اقتصاديا في الوقت نفسه، أي أن تحتكر السلطة ورموزها السوق. فيتراجع الاقتصاد في ظل انعدام أجواء وشروط المنافسة الحرة، وفي ذات الوقت تنحدر السياسة لهوة عميقة لا قرار لها، وقديما حذر ابن خلدون من الجاه المفيد للمال، وهناك من يذهب إلى عدم جواز الجمع بين الإمارة والتجارة شرعًا.
ويظهر من خلال التجارب العديدة للنظم الديمقراطية الليبرالية أن هناك علاقة وثيقة بين النمو الاقتصادي والنظام السياسي الديمقراطي. وعليه فبدون نظام سياسي ديمقراطي لا يمكن للاقتصاد أن يتحرر كليًا من منظومة القوانين المعيقة للتطور والتحديث على صعيد الدولة والمجتمع.
ليس أمام الخرطوم اليوم من خيار سوى إقرار إصلاحات سياسية جذرية ومفضية إلى واقع اقتصادي يتجاوز الاحتكار السياسي، بل الفساد الحكومي المستشري الذي لم يعد في حاجة إلى إثبات.