بعد أن ظلت غافية بشكل (متعمّد) في ما يتعلق بأزمة مثلث حلايب، يبدو أن الاتفاق المصري السعودي بخصوص (تيران – صنافير) وفّر لها سانحة للإفاقة والعودة بالأزمة إلى سطح الأحداث مجددًا، بيان الخارجية لم يكتف بدعوة القاهرة إلى انتهاج أسلوب مماثل لما تم مع السعودية، بل لوّح في وجهها باللجوء إلى التحكيم الدولي كحل للخلاف حال رفضت خيار التفاوض.
معلوم أن المثلث محل النزاع الحدودي تبلغ مساحته (20,580) كيلومتراً مربعاً تقريبًا، وتشكل أربع بلدات (حلايب، شلاتين، أبو رماد، ورأس حِدربة) حواضره الكبرى، فيما أغلبية سكانه البالغ تعدادهم نحو (20) ألف نسمة من إثنية البجا، خاصة فروع (البشاريين، الحمدأواب والشنيتراب والعبابدة)، الذين يشعلون نحو (7) كليومترات فقط من مساحة المثلث، ويعانون فقرًا مدقعًا وإهمالا كبيرًا.
أما بخصوص السياسة والسيادة، فالمعلومات تقول إن مثلث حلايب ظل تحت السيادة السودانية منذ 1902م، حينها كان السودان تحت الاحتلال (البريطاني – المصري)، وإن الوضع ظل على ما هو عليه منذ ذلك التاريخ إلى 1958 حين أرسل الرئيس المصري جمال عبد الناصر بقوة عسكرية ولجان مراقبة لإجراء انتخابات بالمنطقة، باعتبارها مصرية. فيما دفع السودان بشكوى رسمية إلى مجلس الأمن معتبرًا الأمر عدوانًا مصريًا صريحًا على سيادتة، فاضطر عبد الناصر إلى سحب قواته، واستمرت السيادة إلى 1992م، على خلفية اتهام القاهرة للخرطوم بالضلوع في مخطط اغتيال الرئيس المصري الأسبق، مبارك، بالعاصمة الإثيوبية (أديس أبابا)، أثناء حضوره اجتماعات القمة الأفريقية، حيث أرسلت جنودها إلى المثلث وفرضت عليه وعلى الحكومة السودانية سياسة الأمر الواقع بتشييدها قطاعًا خدميًا متكاملًا، يضم مدارس ومستشفيات وشبكات ماء وكهرباء وطرق، كما أصدرت هويات مصرية لمواطني المثلث.
ومن الجدير بالذكر، أنه يشترط لنظر دعاوى النزاع أمام التحكيم الدولي موافقة طرفي النزاع التوجه إليه.
والحال، إن محللين ومراقبين عدّوا أن ما أضعف بيان الخارجية السودانية الأخير، هو إنه جاء كرد فعل لما أسفر عنه الاتفاق السعودي المصري بأيلولة جزيرتي تيران وصنافير للمملكة، ولولا ذلك، لما صدر أصلاً، لكن وعلى نقيض أقوال البروفيسور عبد الله الصادق علي، بأن السودان يملك وثائق تثبت سودانية المثلث حلايب، تؤكد مصر أن التعديلات الإدارية التي جرت عام 1902، جاءت لأغراض إنسانية، من أجل تيسير الحركة وتسهيل العمل بالنسبة للقبائل التي تعيش على جانبي خط الحدود، وأن الأمر لا يعدو كونه محض قرارات إدارية صدرت استجابة لرغبة المسؤولين المحليين في المناطق المتنازع عليها، والأصل في ذلك كله أن تتطابق الحدود الإدارية لأي دولة مع حدودها السياسية.
إلى ذلك، فإن الأمر يبدو شائكًا ومعقدًا بأكثر مما يطرح في وسائل الإعلام الميّالة للتهريج والصراخ، خاصة المصرية، لكن ذلك لا يجعلنا ننساق إلى أسلوب الإعلام المصري، فنشيح وجوهنا وندير ظهورنا عن بعض الحقائق الأولية في هذه القضية المعقدة، وأولها المحاججة بالسيادة على المثلث على أساس ديموغرافي، لجهة أن البجا إثنية سودانية محضة، وهذه حجة ضعيفة ومتهالكة وخاطئة، فتاريخيًا ومنذ ما قبل الميلاد وإلى الآن يعيش بعض البجا في جنوب حدود مصر الحالية ناحية البحر الأحمر، كما يتداخل بعضهم مع إرتريا ناحية الجنوب الشرقي، وكذا الحال بالنسبة للنوبيين وغيرهم. أما الثانية فهي اللجوء إلى التحكيم الدولي، وهي حجة مقبولة وعقلانية، لكنها تتطلب موافقة الطرف الآخر في النزاع، كما تتطلب حيازة خرائط ووثائق أخرى تعضد ملكية المثلث للسودان.
على كلٍّ، يبدو أن مصر لن تقبل بالانخراط في مفاوضات حول المثلث، ولن تذهب إلى المحاكم الدولية لحسم الأمر، وبالتالي سيظل كما هو عليه، وستظل مصر ممسكة بزمام المبادرة كونها موجودة فعليًا فيه. وفيما لو حاولنا استشراف ما سيؤول إليه الوضع هناك، آخذين في الاعتبار كل الحيثيات السابقة، نجد أن خيار المنطقة التكاملية التي دعا إليها الطرفان في وقت سابق، هو الأرجح، وإلا سنرى المثلث وهو يذوب شمارًا في مرقة المصريين.