عندما تخلع والدتي الثوب السوداني لكي تلبس الجرجار ..ذلك يعني ان أرض الميعاد قد لاحت

برش حبوبة
(فاطنة مبروكة دي لو كانت اتعلمت ..كانت بقت رئيسة وزراء)..قالها لي احد اقربائي ذات يوم ..وفاطنة مبروكة هي جدتي لابي رحمها الله ..كانت لها شخصية قوية ومؤثرة ..ما ان تجلس في مكان حتى يلتف الجميع حولها …تجدهم يسمعون لها ويطلبون النصح منها ..كنا صغارا في ذلك الوقت .. كانت الاجازة من الاشياء المقدسة ..

وكذلك وجهتها من الامور التي لا يسمح بنقاشها …التوجه الى وادي حلفا ..رغم حرارة الصيف ..رغم طول النهار الذي لا ينتهي ..رغم تلك الشمس التي تظل معلقة فوق رأسك لمدة ثمانية وعشرين ساعة في اليوم ..كأنها خلقت لك وحدك …لا مفر …كنا نغلق بيتنا في عطبرة لمدة ثلاثة أشهر متواصلة نقضيها هناك في أقصى الشمال …

نسافر بالقطار ..الذي يتسكع بين المحطات ..ويطول السفر حتى نظن اننا في صحراء التيه …ولكن فجأة تبدأ البشريات عندما ارى والدتي رحمها الله وهي تخلع الثوب السوداني لكي تلبس الجرجار ..ذلك يعني ان أرض الميعاد قد لاحت في الافق …بمجرد وصولنا الى بيتنا في حلفا ..الذي يكون تم اعداده لاستقبالنا من قبل ابناء العمومة ..

تنتظم المنزل حركة دائبة لالقاء التحية على جدتي …كانت تمكث داخل البيت لمدة يومين ..ثم بعد ذلك ..وبعد صلاة المغرب مباشرة ..كل يوم ..تفرش (البروش) امام بيتنا ..ويأتي الرجال والنساء من كل انحاء الحي حاملين عشاءهم الذي يتشابه في القراصة ويختلف في (الادام) …في ذلك المجلس يتم نقاش كل شيء..بدأ من مشاكل المياه ..حتى زعل فلانة من علانة ..كان الامر ينتقل بين الجد والهزل ..تتعالى الضحكات ..او مصمصة الشفاه ..

شيئا التقطه واخر يصعب علي فهمه ..فقد كانت اللغة النوبية لازالت متماسكة لم تغزوها كلمات العربية بعد …كنا نحن الصغار نجلس غير بعيد ..نلعب في تلك الرمال …ومن ثم يغلبنا النعاس فنسارع للنوم ..ولايزال مجلس الكبار منعقدا …كنت في تلك الايام اعتقد ان هؤلاء الرجال اخوة لابي ..وكل النساء شقيقات امي ..كبرت وعرفت ان الامر لايعدو اننا ننتمي لقبيلة واحدة …كان الناس على كلمة سواء ..هل كان ذلك تأثير جدتي؟؟ ام تأثير البيئة؟؟ …

هل كان وجود شخص كبير يجتمع عليه القاصي والداني هو السر؟؟ ..بعد وفاة جدتي ..ومن ثم لحقها ابي ..تباعدت زياراتنا لحلفا ..حتى الذكريات صارت بعيدة والوجوه عبارة عن خطوط مبهمة ….ما الذي جعلنا متفرقين في انحاء الأرض ؟؟..لا… ليست الفرقة الجسدية هي المشكلة ..شيء ما تغير ….

الناس اليوم ..تحسبهم جميعا ..وقلوبهم شتى ..كل يغني على ليلاه .اختلفت الاراء وتفرقت السبل.. .هل تغير الناس ؟؟ ام تغيرت المطالب؟؟ ام ان الزمان ليس هو الزمان؟؟ …المشكلة ان البلاد تتهاوشها الاسهم من كل ناحية …والجميع لاهون فيما يخص حياتهم …ترى ..هل من سبيل الى الجلوس مرة اخرى جميعا على (برش) فاطنة مبروكة؟؟ .

د. ناهد فرناص

Exit mobile version