من أجل هذا ثار طلاب جامعة الخرطوم

في عام 2010 دارت معركة شرسة ربما يتذكرها البعض الآن بين إدارة جامعة الخرطوم وما يسمى صندوق دعم الطلاب، حول ملكية بعض الأراضي الخاصة بالجامعة، في وسط الخرطوم.. الأراضي التي تقوم عليها داخليات البركس، وعمادة شؤون الطلاب، ودار اتحاد طلاب جامعة الخرطوم، وقسم طب العيون، وجزء من مركز الخدمات الطبية لاسرة الجامعة.

يتذكر الناس أو ربما لا يتذكرون، كيف أن السيد رئيس الجمهورية قد أصدر قراراً بنقل تلك الأراضي لملكية الصندوق، دون الرجوع للجامعة، ودون حتى توخي الإجراءات القانونية، والدستورية، التي لا تخول السيد الرئيس لاتخاذ مثل هذا القرار؟ كما ورد في المذكرة القانونية للجنة الخبراء؛ التي كونتها الجامعة لدراسة هذا القرار.. كما أن الشعب ربما يتذكر اليوم كيف انتهت تلك المعركة بإقالة مدير الجامعة الأسبق البروفيسر مصطفى إدريس من موقعه وإيقاف صحيفة “التيار” اليومية عن الصدور، وهي الصحيفة التي نشر بها البروفيسور للرأي العام خبايا ما حدث لأراضي جامعة الخرطوم، ما قد بدا حينها وكأنه مجرد تغول من إدارة الصندوق على أراضي الجامعة، مستغلة في ذلك قربها من مناطق القوة داخل الدولة، حتى أنه يُحكى أن القرار محل الجدل قد تم إصداره خارج القنوات الرسمية.

وفي مناسبة اجتماعية خاصة ضمت السيد الرئيس المبجل مع أمين عام صندوق دعم الطلاب، نظر إليه البعض كبداية لسلب الجامعة أراضيها ونقلها لمكان آخر حتى يخلو هذا الموقع الاستراتيجي للمستثمرين الأجانب حملة الدولار والعمولات المليونية.

الأمر الذي اعتبر في حينيها مجرد تكهنات مغرضة من بعض المعارضين للسلطة لا تسندها إلَّا بعض الأحاديث المتداولة في مجالس المدينة قد اتخذ منحى آخر مغاير تماماً بعد 4 سنوات على تلك الحادثة وإقالة المدير.

وكان الخبر هذه المرة من مكتب والي الخرطوم السابق عبد الرحمن الخضر بعد إجازة ما سمي المخطط الهيكلي للولاية، ففي عام 2014 أصدر السيد الوالي قراراً بتكوين لجنة دائمة لترحيل الوزارات داخل الإطار الجغرافي للولاية برئاسة نائبه، وتتولى – بحسب القرار المنشور في الصحف بتاريخ 20/04/2014 – الإشراف ومتابعة تنفيذ توجيهات ترحيل الوزارات والأجهزة الحكومية والمباني العامة من شارع النيل وإيجاد مواقع بديلة أو تعويض نقدي لهم وفقاً للقوانين المنظمة لذلك.

وهذا القرار ساري المفعول بحسب إفادات وزير السياحة الأخيرة للصحف، حيث أكد السيد الوزير أن وزارته وضعت يدها على عدد من المواقع، باعتبارها أثرية وسياحية، مثل وزارة المالية، والبريد، وجامعة الخرطوم، وعند سؤاله عن الجامعة وهل سيتم إخلاؤها؟ أكد ذلك قائلاً ما نصه: (طبعا كل هذا المكان سيتم إخلاؤه لأن هذه المباني ستصبح مزارات أثرية، وهذه جميعها مداخيل للسياحة).

نفى مجلس الوزراء مؤخراً صدور قرار منه بخصوص نقل جامعة الخرطوم تحديداً، لكنه بطبيعة الحال لم ينف اتجاه الحكومة الاستثماري الذي أبرزه تصريح المكتب الإعلامي لوالي الخرطوم بـ(إخلاء شاطئ النيل من كافة المباني والموجودات التي تحجب الرؤية للمارة والسيارات بشارع النيل)، على حد تعبيرهم.

وأما عن اللقاء الذي ضم مدير الجامعة ونائب رئيس الجمهورية وكان بداية الشرارة للأحداث الحالية، فقد نفى المجلس أن يكون اللقاء تطرق إلى مسألة نقل مباني الجامعة من موقعها الحالي، بعكس ما نقلته وكالة السودان للأنباء (سونا) والمملوكة للحكومة، حيث جاء في متن الخبر نقلاً عن حديث مدير الجامعة: (أن اللقاء تطرق إلى تأمين جامعة الخرطوم ونقل كليات الجامعة إلى سوبا).

أما البروفيسور عبدالملك عبدالرحمن، مدير الجامعة الأسبق، الذي سارع ابتداءً وعلى صفحته الخاصة بموقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك) إلى اعتبار خبر نقل الجامعة إلى سوبا محض (إشاعة)، فقد بدل قوله تماما في اليوم الثاني ليخبرنا بأن نقل الجامعة إلى سوبا (خطة استراتيجية) للجامعة منذ السبعينات، وهو الادعاء الذي فشل البروف في اثباته بالوثائق حتى هذه اللحظة.

وملخص القول فإن سياسة هذه الحكومة في التعامل مع موقع الجامعة كمصدر دخل دولاري معطل أمر واضح للعيان، لن تفلح محاولاتهم المستميتة لتغبيش المعلومات بالتصريحات المضطربة في جعلنا نغض النظر عنه.. أن نفس ذات الحكومة التي استمرأت التصرف في أراضي جامعة الخرطوم، تارة لإسكان الدستوريين الذين ضاق بعددهم صدر البلد الواسع، أو لوهبها للسفارة الاثيوبية دون تعويض الجامعة، أو نزعها هكذا عنوة، واقتداراً، لمصلحة مافيا النفوذ؛ المتمثلة في صندوق دعم الطلاب، وأمينه النقرابي، بل وإقالة الإدارة التي وقفت في وجه هذا النزع، وتعيين مديري السمع والطاعة وطأطأة الرؤوس، لن تتوانى يوماً عن تنفيذ خطة البيع لأول مشترٍ آتٍ.

إن الحكومة التي لم يرفّ جفنها ولو قليلاً وهي تعرض مستشفى العيون للبيع، وهو مبنى أثري آخر شهد جزءاً من معركة 1924 ضد المستعمر الإنجليزي هي آخر من يتحدث عن المزارات السياحية، والمحافظة على الآثار، وهو البيع الذي لم يتم لعدم وجود مشترٍ مناسب حتى اللحظة دون أن يُلغى القرار.

إن هذه القرارات، وهذا النهج، الذي يعامل البلاد ومَعَالِمِها التاريخية، ودور العلم فيها، على أنها مجرد قطع أراضٍ استثمارية، قادرة على جلب العملة الصعبة، وانعاش الاقتصاد المتعثر، بسبب فشلهم وفسادهم، ستظل سيفاً على رقبة جامعة الخرطوم، ما لم يتواصل حراك طلاب الجميلة ومستحيلة الجاد، لاستعادة ممتلكاتها وتأمين منشآتها بعيداً عن إدارة الموافقة والتطبيل الحالية للجامعة.

هافغنتون بوست
الشريف حسين الهندي

Exit mobile version