* ربما على عكس الكثيرين، أجد نفسي مرتاحاً ومتجاوباً جداً بل ومتفائلاً، عندما يتم توقيفي من قبل جهات أمنية في منتصف الليل، وكذلك عندما تطلب مني الوثائق الثبوتية والهوية في مداخل المؤسسات والهيئات، أو حتى عندما أخضع لمراجعة التراخيص من قبل شرطة المرور على قارعة الطرقات.. وغيرها من محطات إبراز الهويات.. لحظتئذ أشعر بأنني أنتمي إلى دولة محترمة قادرة على فرض هيبتها وإبراز سطوتها.. فلا تملك ساعتئذ إلا أن تذهب لتنام ملء جفونك!! على أن الأمن هو السلعة الأغلى في هذا الزمان.. فنظرة واحدة إلى نشرات الأخبار ذات (الجمل المفخخة والصور المتفجرة).. تجعلك تتحسس مقبض سيف دولتك !!
* شعور مغاير مخيف ومرعب اجتاحني وأنا أتجول مسيرة يوم ما بين مدينة القضارف والحدود الإثيوبية، عندما لم يقابلني مظهر للدولة إلا في بعض المرتكزات المتباعدة جدا !! ومسيرة نهار بأكمله نغدو ونروح ما بين كنانة وسنار، وساعات من الطيران بين الفاشر ونيالا والجنينة، ففي كل هذه الرحلات المكوكية لم ألحظ وجودا للدولة إلا في بعض الحواضر، وغالبا تتبدى الثغرات الأمنية في المناطق غير المأهولة بالتنمية والإعمار والسكان.. على أن هذا الفراغ يعرض البلاد للمهددات الأمنية.. سواء أكان ذلك من دول الجوار أو حتى من بعض من أبناء جلدتنا أنفسهم!! فعلى الأقل إن ثقافة الحركات المسلحة التي تثقل كاهل دولتنا ما كان لها أن تتفشى لولا وجود هذا الفراغ الكبير !!
* لعل هذا يجعلنا نعيد قراءة فلسفة الحكم الاتحادي.. على أن الثمانية ملايين سوداني الذين يستعصمون بالعاصمة القومية لو أنهم توزعوا على هذه الفراغات الولائية.. وفق خطة (تنمية متوازنة) محكمة.. لأمكن توسيع دائرة بسط سيطرتنا وقبضتنا الأمنية على هذه الدولة الباهظة !!
* ويزيد من طين أراضينا البور بلة، هو أننا دولة في حالة تشكل، أو قل لم تتم بعد عمليات تشكيل نسيجها الاجتماعي.. بالصورة التي تؤهلها للصمود أمام دعاوى الجهة والقبيلة، ولقد أثبتت الأيام وبعض الحوادث أن (القبيلة أقوى من الفكرة).
حتى في حالة المدرسة الإسلامية التي يفترض أنها محصنة بالوعي ضد مخاطر (التصنيع الإثني)، رأينا حالات كثيرة للانتماء للقبيلة والجهة مقابل الفكرة.. فعلى الأقل ترفدنا حالة هجرات كوادر مميزة من حزب المؤتمر الشعبي (الإسلامي) إلى حركات إثنية مسلحة !!
* حتى دعوة اليسار إلى (تفكيك دولة القوانين المقيدة للحريات) – مع وجاهتها نظريا – تجدني أقابلها بحذر شديد وريبة.. إذ لابد من وجود قدر من (تماسك الدولة والمجتمع) يسمح لهذه الحمولة من الحريات لتمر بسلام !! فدائما هنالك مقاربة بين مقدار الحريات ودرجة تماسك الدولة والمجتمع !!
* فالسودان ذو السبعمائة قبيلة وسبعين لهجة وتسعة وتسعين حزبا ومائة حركة مسلحة !! ليس هو بريطانيا ولا السويد ولا حتى مصر!! ففي مصر الشقيقة هنالك (مواطن مصري واحد) أمه وأبوه وقبيلته ودولته وغايته مصيره وحياته هي مصر فقط !!
* نحتاج.. والحال هذه.. إلى حالة إخضاع الدولة والمجتمع إلى (هيبة القوة) التي تخشى مسيرة شهر كامل.. حتى لا نسقط في أتون (قانون القوة) بدلاً عن (قوة القانون) !!