نشرت مجلة “النيو يوركر” الأمريكية تقريرا مطولا للصحفي بن توب حول جهود لجنة “العدالة والمساءلة الدولية the Commission for International Justice and Accountability”، وهي جهة تحقيق مستقلة أُسست في 2012 للتحقيق في الانتهاكات التي ترتكبها الأطراف المتقاتلة في النزاع السوري.يقول بن توب في تحقيقه أن العاملين مع “لجنة العدالة والمسائلة” قاموا في السنوات الأربع الماضية بتهريب أكثر من 600 ألف وثيقة حكومية خارج سورية، الكثير منها من مبان أمنية عالية السرية.
وكان يتم تهريب الأوراق هذه إلى مقر المجموعة في إحدى الدول الغربية بطرق عدة عبر الحدود السورية إلى الدول المجاورة ومنها إلى أوروبا، وأحيانا في الحقائب الدبلوماسية. وهناك تخضع كل ورقة لمسح ضوئي ويتم إعطائها “بار كود” ورقم، ثم يتم تخزينها في قبو تحت الأرض تحت غرفة مؤمنة بباب معدني، تغطي جدرانها خرائط لقرى سورية وقوائم بأسماء مسؤولين سوريين متهمين بانتهاكات لحقوق الإنسان وجرائم بحق الإنسانية والأدوار التي قاموا. وتملأ أقوال الشهود والوثائق المترجمة عشرات الملفات التي توضع في خزانة مضادة للحريق.
وتوج عمل لجنة “العدالة والمسائلة” حسب بين توب مؤخراً بمذكرة قانونية من 400 صفحة ربطت بين التعذيب والقتل الممنهجين لعشرات الآلاف من السوريين بسياسة رسمية مكتوبة، وافق عليها الرئيس بشار الأسد، وتتم بالتنسيق بين أجهزة المخابرات السورية ويطبقها عملاء للنظام يرفعون تقاريرهم عن نجاح حملتهم إلى رؤسائهم في دمشق. وتسرد المذكرة أحداثاً يومية في سورية عبر عيون الأسد وشركائه وضحاياهم، مقدمةًً سجلا للتعذيب المدعوم من الدولة حسب تعبير معد التقرير.
ويضيف بن، لقد حكى الناجون سابقاً عن عمليات قتل وأعمال التعذيب وحالات احتجاز غير إنساني في سورية، ولكن لم يتم إثبات ذلك بأوامر موقعة. وينقل عن ستيفن راب Stephen Rapp الذي قاد فرق الادعاء في المحاكم الجنائية الدولية في رواندا وسيراليون إن وثائق لجنة “العدالة والمسائلة”،”أغنى بكثير من أي شيء رأيته وأي شيء قمت بالادعاء فيه في هذا المجال”.
وينقل أيضا، عن مؤسس لجنة العدالة بيل ويلي Bill Wiley وهو محقق كندي في جرائم الحرب عمل مع عدة محاكم دولية بارزة أنه أصيب بالإحباط بسبب الخطوط الحمراء الجيو- سياسية التي عادة ما تعرقل السعي وراء العدالة. ولأن عملية جمع الأدلة وترتيبها في قضايا هي عملية تنفيذية صرفة فقد رأى بيل ويلي أنه من الممكن إعداد ملف خاص بالانتهاكات في سوريا قبل وجود الإرادة السياسية لمضي في القضية.
وهناك سبب إضافي لإعداد الملف حسب ويلي هو أنه على اللجنة أن تحدد عدداً من “الجناة الخطرين الآتين من أجهزة الأمن والمخابرات” السورية الذين دخلوا إلى أوروبا، و”لجنة العدالة ملتزمة بشدة بمساعدة السلطات المحلية في الادعاء”. علما أن مجلس الأمن في الأمم المتحدة وحده القادر على إحالة الأزمة في سورية إلى المحكمة الجنائية الدولية، مشيراً إلى أنه في مايو 2014 عارضت روسيا والصين مشروع قرار كان سيعطي المحكمة السلطة القضائية على جرائم الحرب التي ارتكبتها جميع أطراف الصراع.
ويذكر تقرير “نيويوركر” أن الوضع في سوريا يجعل من المستحيل تقريباً حصر عدد القتلى، وأن الأمم المتحدة توقفت عن المحاولة منذ أكثر من عامين، ولكن ـو دائما حسب بن توب ـ تراقب مجموعات حقوق الإنسان تراقب الوضع، وقدرت أن العدد يصل إلى نصف مليون تقريباً بمعدل قتل متصاعد كل عام.
ويتحدث التقرير طويلا عن خلية الأزمة في سوريا، التي كانت تلتقي كل ليلة في مكتب في الطابق الأول من القيادة الإقليمية لحزب البعث في وسط دمشق لمناقشة إستراتيجيات سحق التمرد. وكان ذلك يتطلب معلومات مفصلة عن كل احتجاج، لذا كان يلزم الخلية تقارير من اللجان الأمنية وعملاء المخابرات في أكثر المحافظات تمرداً. لذلك قررت المجموعة توظيف شخص يقوم بكل العمل الكتابي.
هذا الشخص كان عبد المجيد بركات البالغ من العمر أربعة وعشرين عاماً، الذي كان قد انضم في وقت مبكر من الاضطرابات إلى إحدى أولى الجهات الثورية المنظمة. ورغم ذلك رشح نفسه لوظيفة مدون لاجتماعات خلية الأزمة التي شكلها النظام السوري مع بدايات الاحتجاجات ضد نظام بشار الأسد، وبالتالي أصبح عبد المجيد بركات العضو في المعارضة يقوم بتسيير مذكرات أمنية سرية من جميع أنحاء البلاد.
أي أصبح على اطلاع على أكثر من 150 صفحة يوميا تصنف بدقة التهديدات المتصورة لحكم الأسد (رسوم جرافيتي، منشورات الفيسبوك، واحتجاجات…. إلخ) وأخيراً تهديدات بوجود مجموعات مسلحة. ومع أن النظام كان قد ادعى علناً أنه سيسمح بالمظاهرات السلمية، إلا أن المذكرات الأمنية التي هربها عبد المجيد أوضحت أن عملاء المخابرات كانوا يستهدفون المحتجين ونشطاء الإعلام ويطلقون النار عليهم بلا تمييز.
عبد الجيد الذي كان يعرف أنه عاجلاً أم آجلاً سيكتشف النظام أنه هو مسرب الوثائق التي تصل إلى الإعلام، قام في يوم عطلة بنهب المكاتب وأخذ أكبر عدد استطاع الحصول عليه من الوثائق قبل الانتقال عبر مسافة تقدر بحوالى 300 كيلو مترا شمال دمشق إلى الحدود التركية. حاملا أكثر من ألف صفحة ملصقة على جسمه وحجز غرفة باسم مستعار في فندق قبل أن يلاحظ أي شخص في دمشق رحيله.
وينقل بن توب عن المحققين في لجنة “العدالة والمسائلة” أن العديد من الوثائق يأتي من منشآت أمن استخباراتي بعيدة عن العاصمة. وتشير تلك الأوراق عادة إلى قرارات اتخذتها الخلية المركزية السورية لإدارة الأزمة، ولكنها لم تكن ثمينة بنفس قدر الملاحظات التي أتت من داخل تلك الاجتماعات.
ففي الوثائق التي بحوزة لجنة “العدالة والمسائلة” على سبيل المثال وثيقة تفيد بأنه في مساء يوم 5 أغسطس 2011 عقدت الخلية السورية المركزية لإدارة الأزمة اجتماعها المعتاد في المقر الإقليمي لحزب البعث في دمشق.
التي ناقشت خمسة شهور من الثورة في البلاد والتي امتدت خلالها الاضطرابات إلى عدة محافظات. وقد أرجع المجتمعون هذا الأمر إلى “التداعيات في معالجة الأزمة” حسبما ورد في الوثائق التي استولت عليها لجنة العدالة. وألقوا اللوم على ضعف التنسيق والتعاون بين الأجهزة الأمنية”. وقاموا يومها بوضع خطة لاستهداف فئات محددة من الناس.
وفي السياسة الأمنية التي نتجت عن الاجتماع، تقرر أنه كان على جميع الأفرع الأمنية أن تشن حملات يومية ضد منظمي الاحتجاجات الذين يتحدثون إلى الصحافة الدولية. و”بعد تنظيف كل منطقة من المطلوبين” سيقوم عملاء الأمن بالتنسيق مع الموالين للبعث ومليشيات الأحياء ووجهاء المجتمعات المحلية بالعمل على ضمان عدم عودة نشطاء المعارضة العودة إلى تلك المناطق. كما قرروا أن يتم “تشكيل لجنة تحقيق مشتركة في المحافظة” مكونة من ممثلين لكل الأفرع الأمنية يقومون باستجواب المعتقلين.
ومن ثم “تعميم نتائج التحقيق على كافة الفروع الأمنية لاستثمارها في توزيع الأهداف الجديدة والجدية في ملاحقتهم”. كان الهدف الأساسي هو “التوصل إلى أسماء التنسيقيات المحلية” منظمي الاحتجاجات”وتوقيفهم”. كما تم إعطاء أوامر لعملاء الأمن بـ “موافاة رئيس مكتب الأمن القومي يوميّاً بتقرير عن نتائج التفتيش يتضمن أسماء المطلوبين الذين تم توقيفهم”.
وينقل بن عن لجنة “المسائلة والعدالة” أن السياسة التي نتجت عن اجتماع خلية الأزمة المذكور، أصبحت عاملا رئيسيا في قضية لجنة “العدالة والمسائلة” ضد المسؤولين في النظام السوري. فحسب ويلي مؤسسة اللجنة، فإن أسماء أعضاء خلية الأزمة “في كل مكان في هذه الوثائق”.و استطاع المحللون بفضل وثائق بركات المهربة من دمشق والوثائق الـ 600 ألف التي بحوزة لجنة “العدالة والمسائلة”، تتبع توزيع تلك الأوامر على عدة سلاسل قيادية موازية مختلفة من خلية الأزمة.
وينقل التقرير عن كريس إنجلز إن وثائق عبد المجيد الآتية من ميدان العمليات الأمينة مساوية بالأهمية للوثائق التي بحوزة لجنة “العدالة والمسائلة” والتي أظهرت سلسلة الأوامر التي نتجت عن الخطة الأمنية لخلية الأزمة، لأنها (وثائق عبد المجيد) كانت تؤكد للقيادة في دمشق تنفيذ عمليات الاعتقال والتحقيق، وهي بالتالي دليل على “أن القيادة في دمشق بقيت على علم بالانتهاكات في مراكز الاعتقال”.
ونقل بن عن ستيفن راب الذي كان في ذلك الوقت السفير الأمريكي لشؤون جرائم الحرب إنه بين الصور التي هربها قيصر وهي صور لجثث لعشرات الآلاف الأشخاص الذين قضوا تحت التعذيب وملفات لجنة “العدالة والمسائلة” فإنه “سيكون لدينا أدلة أفضل مما كان لدينا في أي مكان آخر منذ نورمبرج عندما يأتي يوم العدالة. “. ويعتقد ويلي وإنجلز أنه إذا وصلت القضية للمحكمة فإن لجنة العدالة لديها ما يكفي من الأدلة كي تدين الأسد ومعاونيه بعدد من التهم تتضمن القتل والتعذيب وأعمالاً أخرى ضد الإنسانية.
دنيا الوطن