“لا تُسِّمه كتاب الاختلاف، بل سَمِّه كتاب السعة” .. الإمام أحمد بن حنبل مخاطباً الفقيه أسحق بن بهلول ..!
(أ.ع) فتاة متعلمة وموظفة كادحة، تعشق الصناديق وشراء العدة وقراءة الصحف، وتقف بثبات وتفاؤل على أعتاب الخامسة والثلاثين، أرسلت إلى تطلب أن أكتب عن قضيتها علني أساعدها في انتزاع حكم أسرتها ببراءتها من تهمة الجنون (معظم أفراد أسرتها اتهموها بالجنون لأنها فضلت “سواق أمجاد” –ثلاثيني، متوسط التعليم، قليل الدخل والحيلة – على مهندس معماري، أربعيني، جيد الدخل، واسع الحيلة ..!
ماذا عساي أقول سوى أن “خلاف” صاحبة الرسالة مع أسرتها هو “اختلاف” باطنه السعة والرحمة وظاهره القلق والعذاب، لأن كلا الرجلين ناجح في امتحان الكفاءة والنسب بمقاييس قانون الأحوال الشخصية، أما تفاوت النجاح الأكاديمي والمكانة الاجتماعية ومقدار سعة الرزق فتلك تفاصيل تخص صاحبة الشأن وحدها .. أليس كذلك؟! .. بلى، هو كذلك وأكثر من ذلك ..!
عندما يغلق ذلك الباب – أياً كان نوعه – لا شيء يجعل علاقة الزواج تصمد سوى مقدرة كل طرف على استيعاب الآخر .. وهذه المقدرة قد يفتقر إليها بروفيسور جامعي أو رجل أعمال ثري أو طبيب مرموق، بينما قد يمتلكها زوج متوسط التعليم والدخل والذكاء ..!
فالمقدرة على استيعاب الآخر أمر مرهون بقناعات كل شخص بتركيبة الطرف الآخر ومعرفة كل شريك لحجم مقدراته على التعايش مع النمط السلوكي الملائم لعيوبه ومزاياه .. هذا هو الثابت المنطقي الوحيد في علاقات الزواج وكل ما عداه تبقى متغيرات قاصرة عن الصمود أمام ديمومته إذا لزم الأمر .. وإن كان المجتمع بأعرافه الخاطئة أحياناً قد يصر على إقناعنا بكونها ثوابت ..!
كثيراً ما يتداول الناس حكاية زوجين يشكل نجاح زواجهما كسراً لبعض الأعراف الراسخة .. أن يكون الزوج وسيماً والزوجة دميمة.. أن يكون أحدهما من طبقة اجتماعية مرموقة والآخر من طبقة متواضعة .. أن ينتمي أحدهما إلى أصول عرقية يصعب في عرف المجتمع زواج أحد أفرادها من أصول الآخر .. وهكذا .. إلخ .. فالمقياس الحقيقي هو ما يحدث خلف الأبواب المغلقة، وكيف يستوعب كل طرف نقائص الآخر وكيف يستثمر رضاه عن مزاياه ..!
قد يحقق الرجل السعادة التي ينشدها مع امرأة تكبره سناً، وقد تتزوج الفتاة الثرية شاباً كادحاً وتسعد به رغم فقره، وقد تتزوج الشابة الجميلة رجلاً في عمر أبيها فتسعد وتفشل غيرها مع شاب يقاربها سناً … وهكذا .. إنه توافق الأرواح الذي لا يباع .. ولا يهدى .. ولا يوهب .. ولا يشتري بثمن ..!
الناس لا يكونون على حقيقتهم إلا عندما يزيلون الأقنعة خلف الأبواب، ولكل منهم صورته التي يجتهد في رسمها أمام الناس، وصورته العارية أمام نفسه، وكلا الصورتين تمتزجان وتتداخلان لتكونا حقيقته التي لا يعرفها كاملة إلا شريك مؤسسة الزواج، والتي لا يقبلها كما هي إلا الشريك المناسب ..!
أكبر مشكلات الزواج في هذا المجتمع أن معظم أفراده يختارون شريك مؤسسة الزواج بمقاييس الصورة التي يحبون أن يراهم الناس عليها، فتنهار علاقات كثيرة على الرغم من توافر كل الشروط المنطقية لنجاحها في الظاهر، بينما ينجح الذين يواجهون أنفسهم بحقائقها وينجحون في تحديد مطالبها وفقاً لمقدراتهم على الاحتمال والاعتدال في المنح والمنع والصفح والتجاوز ..!
قد تتزوج (أ.ع) من سائق الأمجاد ذاك وتنجب أطفالاً مبروكين أذكياء يأتون برزقهم الوفير وتسعد هي بهم وتعتز بأبيهم، وقد تتزوج من ذلك المعماري المرموق فتشقى به ويشقى بها ويخضعهما الله لامتحان المال والبنون فلا يجتازانه معاً ..!
ليس عدلاً – بأية حال – أن نختار الشخص الذي يلازمنا طوال العمر خلف باب مغلق وفقاً لأعراف وقناعات أناس آخرين سيظلون دوماً خارج ذلك الباب، وهم فوق ذلك كله لا يملكون مفتاحه .. فهل من مُذَّكر ..؟!