> مع أنه لم تتبقَ إلا ساعات معدودات على ذهاب أكثر من ثلاثة ملايين وخمسمائة ألف مواطن في ولايات دارفور إلى مراكز الاقتراع البالغ عددها «1.400» مركز في الولايات الخمس، للتصويت في الاستفتاء الإداري حول الوضع الحالي القائم الآن، أم اختيار صيغة الإقليم الواحد لحكم وإدارة دارفور، إلا أن الجدل مايزال محتدماً بين نخب دارفور المتعلمة ومثقفيها حول أيهما أفضل من الصيغتين، وبالرغم من خسوف رأي من يؤيدون الرجوع إلى الإقليم كما هو ظاهر للعيان، إلا أن المنطق السليم يقتضي الانتظار حتى تسفر صناديق الاقتراع عن الرأي الراجح بين الرأيين، ومناقشة هذه القضية من جوانبها المختلفة. > بتقليب متأنٍ في الذاكرة وبعض المراجع القديمة، وجدت نذراً قليلاً من المعلومات والتقارير المهمة مؤداها يفيد بأن الحركات المتمردة في دارفور عندما نشأت لأول مرة وظهرت في العيان قبل ذيوع نشاطها، كانت تناقش في مخبئها أعلى جبل مرة عندما بدت تتجمع في العام 2002م، فحوى خطط أعدت مسبقاً لتكون مانفيستو ما يسمى بـ( حركة تحرير دارفور)، التي ولدت مشوهة بإعاقاتها الذهنية والحركية، ثم أجريت عليها عملية تجميلية معقدة لتصبح (حركة تحرير السودان)، يرأسها عبدالواحد محمد نور وأمينها العام مني أركو مناوي، وكان النطاسي الجراح هو جون قرنق دي مبيور رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان، الذي نصح اثنين من عضوية الحركة التابعين له هما مني أركو مناوي وعبدالواحد محمد نور، بتغيير الاسم واعتماد منفستو منقح، وردت فيه وبشكل حاسم وقاطع ضرورة اعتماد صيغة الإقليم وعودة دارفور إليه.. فترى ماذا كان يريد قرنق ويصر على تلميذيه من صيغة الإقليم..؟ > في الفكرة المركزية للحركة الشعبية لتحرير السودان وهي تخوض حرباً طويلة ضد الحكومة المركزية في الخرطوم، وضد الشمال كما كان يصنف في ذلك الوقت، لا يمكن تحقيق اكتساح حاسم أواقتلاع للدولة السودانية، دون أن يكون الضرب في العمق وتوجه الطعنة النجلاء إلى قلب المركز، ووضعت الجهات والدوائر الحاضنة لجون قرنق وحركته، مجموعة من مساعدات وروافع لمشروعه السياسي المسمى (السودان الجديد)، لإعادة تركيب السودان وتوزيع السلطة والثروة فيه على أسس منذ السلطنة الزرقاء في أواسط السودان وشماله النيلي، وعمل أعضاء ما يسمى بـ (المجلس) وأبرزهم (روجر ونتر، وتيد داقني، وأريك ريفز، وفرانسيس دينق، وبرنارد قاست، وسوزان رايس، وفرانك وولف، ودونالد بين)، على تلقين قرنق وأتباعه أن مسألة تغيير السودان والحكم تبدأ حين تتجمع أطراف السودان تحت دعاوى الظلم والتهميش، وتضغط على المركز حتى تضعفه وتستولي على السلطة. > وكان جون قرن حتى مصرعه، وحركته الشعبية حتى انفصال الجنوب، تعمل على تقوية فكرة عودة السودان إلى نظام الأقاليم، وفي مقدمة تلك الأقاليم منطقة دارفور. فاشتعال الحرب في دارفور عجَّل وبسرعة فائقة بإقناع الحركة المتمردة الوليدة فيه (حركة تحرير السودان) ومن بعدها الحركات المتصدعة منها، إلى تبني فكرة إعادة دارفور إلى الإقليم، والسبب الوحيد في ذلك تجهيزها وتجميعها وتجميع أهلها للعمل معاً لمواجهة المركز وتغيير مركزية السلطة في السودان. > فإذا سهل في ذلك الوقت من خلال التفاوض أو أي إسلوب آخر، الرجوع إلى صيغة الأقاليم، لكان هناك سودان آخر ليس الذي نراه اليوم، فحركة قرنق خلال المفاوضات في نيفاشا طرحت مقترح العودة إلى الأقاليم الستة في الشمال والإقليم الجنوبي، لكنها لم تفلح وظلت أعينها منصبة على الفكرة الرئيسة التي تقوم على جمع الهامش ليضغط على المركز، وخلال مفاوضات أبوجا طرحت الحركات المتمردة وصارت ثلاث حركات يومئذ هي حركة تحرير السودان بقيادة مني أركو مناوي، وحركة تحرير السودان ويرأسها عبدالواحد محمد نور، وحركة العدل والمساواة بقيادة خليل إبراهيم ، طرحت فكرة الإقليم وثار جدل ونقاش طويل حول الفكرة التي كان يُراد وضعها بشكل فوري ونهائي في الاتفاقية ولم يحدث، وتطورت هذه الفكرة في مفاوضات الدوحة وأقرت هناك بعد أن تم الاتفاق على ضرورة استفتاء آراء المواطنين في دارفور، وهذا ما كان وخرجت به وثيقة الدوحة 2011م. > فإذا كانت الفكرة في جوهرها السياسي، منصة للصراع مع المركز، ومحاولة يائسة لإحكام قبضة القوى المتمردة على مقاليد الأمور على دارفور مرة أخرى، وتحريك لتفاعلات صراع المركز والهامش وشرعنة وجودها حتى تحقق أهدافها، فإن ما يعادلها ويقابلها الجانب الآخر يحتاج إلى مناقشة وقراءة ..! نواصل…