الدوحة وإن طال السفر

كثيرون لا يصدقون أن تحولاتٍ كبرى، تجري الآن في دارفور. لم يعد هناك من يثق في البندقية، بأنها ستُحقِّقُ له ما يريد ويرغب من تغييرات تأتي على هواه ومبتغاه. صحيح أن هناك من يكابرون ولا يستطيعون مغادرة محطة الرهانات الخاسرة. نعم لا تزال توجد جهات لها مصالح وأجندة في استمرار الحرب. ومن المؤسف أن أزمة دارفور فتحت باباً واسعاً للاستثمار في بيزنس الحرب؛ فهناك جهات عدَّة دولية ومحلية، تتعاظم مصالحها في استمرار أوضاع عدم الاستقرار وبقاء الإقليم، إما مُشتعلاً أو في منزلةٍ بين المنزلتين، بين الحرب والسلم!

كان الواقع على هذا الحال: سياسيون يبحثون عن المناصب، وما يترتب عليها من مكاسب مالية ومعنوية، وعسكريون يجدون في هذه الحالة المُلتبسة، وضعاً صالحاً للسلب والنهب وبيع الولاءات، ومنظمات تستفيد من الحال في جمع التبرعات واستدامة الدعم، ومثقفون وأنصاف متعلمين تصبح عندهم دارفور بطاقة رابحة في نوافذ اللجوء السياسي وبرامج إعادة التوطين بالدول الغربية.

ظلت دارفور في محتجز حركات مسلحة تُقدِّم حياة المواطنين وصحتهم، قرباناً للمناصب والمهاجر الناعمة.

ظلت دارفور رهينة لزعماء ميليشيات، يفعلون كل شيء بأي ثمن.

أكبر اختراق أحدثته وثيقة الدوحة أنها أدخلت أطرافاً أساسية ومركزية، كانت مُهملة ومُهمَّشة في معادلة التفاوض وفي واقع الحياة السياسية بدارفور.

دخول أهل المصلحة في السلام والاستقرار ضمن المعادلة الحاكمة للأوضاع في دارفور فَرَضَ حصاراً سياسياً وأخلاقياً على أصحاب الأجندة الحربية.

ما كان ذلك ليحدث لولا حكمة وصبر وتواضع الوسيط القطري السيد محمد بن عبد الله آل محمود، فهو الذي طاف على دارفور كلها من قرى ومدن ومعسكرات واستمع للمواطنين (الأعيان والبسطاء)، ودخل المعسكرات وجلس على الأرض يشرح ويُفسِّر ويُعيد بناء جدار الثقة، لم ييأس أو يُحبط، ورغم الصعاب والعقبات والانتكاسات ظلَّ على ذات الحماس والإرادة القوية وهدوء العلماء ووقارهم، لم يفقد في أية لحظة ابتسامته الوضيئة، المحرضة على التفاؤل، والهازمة لجيوش المحبطين.

سبع وسبعون مبادرة لإنهاء أزمة دارفور لم تستطع تحقيق ولو القليل مما حققته وثيقة الدوحة.

ووثيقة الدوحة لم تكن صفقة لتوزيع المناصب والامتيازات، ولا اتفاقاً بين سياسيِّين على ترسيم مناطق النفوذ ولا مشاريع مبان وخدمات، تسقي الصحراء وتضيء الخرابات؛ هي مشروعٌ مُتكاملٌ للسلام والتنمية، يُؤسِّس لثقافة الاستقرار وقبول الآخر ونبذ ثقافة الاحتراب.

بعد اشتعال الحرب وركوب الجميع قطار الجنون، لم يكن هناك أكثر إضراراً بدارفور من مبادرات السلام التي جعلت من الإقليم سوقاً كبيراً للمزايدات والمساومات والمحاصصة في المناصب.

زيارة الرئيس عمر البشير الأخيرة لدارفور تمثل أوضح دليل على نجاح وثيقة الدوحة، فقد مثلت الزيارة أكبر تجمع للقوى الداعمة للخيارات السلمية. وثيقة الدوحة جردت حملة السلاح من مشروعيتهم الثورية، فما الذي يجعل حركة مني أركو مناوي تنخرط بلا حدود في حروب ليبيا لمصلحة قوات خليفة حفتر إذا لم يكن مناوي في الأساس فقد أجندته المعلنة في دارفور؟ وما الذي يجعل جبريل إبراهيم قائد حركة العدل والمساواة طرفاً أساسياً في صراع دولة الجنوب، إذا لم يعد يشعر بضيق حيز الأفعال والمواقف في دارفور.

أما عبد الواحد محمد نور قائد حركة تحرير السودان بجبل مرة، بما عدا مفاوضات أبوجا، فهو لم يكن في يوم جزءاً من مبادرات التفاوض الجادة والعابثة، فهو حبيس أوهامه في العالم الافتراضي.

لا خيار الآن في دارفور سوى خيار السلام، ولا يوجد منبر باستطاعته تحقيق ذلك سوى منبر الدوحة.

التنازل عن وثيقة الدوحة واستبدالها بمنابر أخرى سيمثل أكبر انتكاسة لواقع السلام المتحقق الآن في النطاق الغالب من دارفور.

Exit mobile version